لاحظت منذ سنوات، ويزداد الاعتقاد يوما عن يوم، أن المرء إذا ركز بعقله ووجدانه كثيرا على القرآن الكريم، وحاول التعامل معه، حفظا وفهما وتدبرا وتأملا، تتلاشى عنده كثير من الموروثات، أو ما يعتقد أنه مسلمات استقرت في إدراكه بفعل الدراسة أو القراءة أو البحث..
الغريب أن من بين الأمور التي تخفت في الذهن الأحاديث النبوية، المبثوثة في كتب الرواة، فيقلُّ التفاعل والتجاوب معها، وتتراجع المرويات كيفما كانت إلى الوراء، أمام قوة كلام الله ونفاذه العجيب إلى الفؤاد وتأثيره البالغ على النفس.
في بداية الأمر يشعر المرء بالخوف، ويقول إن هذا مما يخشى منه المرء على نفسه، وإنه ربما بداية الزيغ عن الهدى، والانحراف عن الصراط، إذ لا مفر من التعامل مع الحديث النبوي مثله في ذلك مثل الإقبال على كتاب الله المنزّل.
لكن بعد سنوات وسنوات، يفتر الاهتمام بالحديث تدريجيا، ويُفسح المجال لهيمنة القرآن على الروح واستبداده بالذوق، ويحصل الترتيب المطلوب في الدماغ، وتستقر هذه الحقيقة في الوجدان، حتى لم تعد النفس تجد راحة إلا في الاهتمام بالتنزيل المحكم، ولم يعد ينشرح الصدر لغير ذلك..
فكلما تم إعطاء الأولية للحديث النبوي وتقديمه في الفهم والنقاش والبحث على غيره، ازداد الخلاف والاختلاف، وتقوّى الجدال والخصومة، واضطرب المنهج، واختلت الموازين، ويٌستخلص أن مردّ ذلك كله "الحديث النبوي"، الذي فرّط فيه الأوائل، ودسّ فيه المنافقون افتراءاتهم وكذبهم على نبي الإسلام، وتلاعبت به أهواء السياسة..
وبالمقابل كلما قٌدِّم القرآن على غيره، وفٌضّل عمّا سواه، قلّ الاختلاف، وتوهّجت الروح، وفاض الوجدان، وانفتح المرء على الانسان عموما، كيفما كان مذهبه وعقيدته، وبدا عقله مستوعبا لكل شيء، ورحيما بكل كائن، واخترق ذهنه كل الوجود، وتجاوز إدراكه كل الأبعاد..
في اعتقادي هذا شيء طبيعي ومنطقي ومطلوب، لأن القرآن كلام الله المنزل المنزه عن التحريف والمحفوظ من التبديل والتغيير، ومتخطّ لحدود الزمان والمكان، أما كلام النبي، فهو كلام بشر، يحكمه الواقع وظروف التنزيل وإكراهات الحكم والتنظيم، بالإضافة إلى تعرضه ـ من بعد موته عليه السلام ـ للتحريف والتلفيق والوضع، وهو تراث لم يستطع المسلمون الحفاظ عليه نقيا منذ البداية، وأما ما قيل منه إنه صحيح، فهو الآن محط اختلاف ومثار فتنة..
إذا وٌضع القرآن في مكانته التي أراد الله أن يكون فيها وعليها باعتباره كلام الله ووحيه، وإذا تم وضع "الحديث النبوي" في مكانه الصحيح وفي سياقه التاريخي، باعتباره كلاما بشريا وليس وحيا، انفكت العقد وتلاشت الخصومات..
إن رسالة نبي الإسلام و"سنته" هي تبليغ القرآن إلى الناس أجمعين، فكانت إرادة الله أن يستعمل لسان بشر ليترجم "كلام الله" إلى لغة وحروف ومقامات يفهمها ويستوعبها الناس.. وكان هذا اللسان البشري هو نبي الإسلام، فانتهت رسالته ومهمته ـ عليه السلام ـ بانتهاء نزول القرآن..
من حق الإنسان المعاصر أن يشك في الحديث النبوي، وألا يؤمن بكتب الحديث، وألا يعتمد عليها، بما فيها البخاري أو غيره، إلا ما يراه في نظره واجتهاده صحيحا ومتوافقا مع القرآن الكريم، وأن ينظر فيها انطلاقا من الوحي المنزل كيفما يفهمه، وليس استنادا إلى المناهج التي وضعها الأوائل في تصحيح الأحاديث، فهي ليست وحيا..
لذلك عندما يثار النقاش حول حديث ما، فإن الأولى والأنفع هو عرضه على القرآن الكريم أولا، فإذا كان مخالفا لروح الكتاب وهديه، حُقّ لنا ان نرده وألا نأخذ به، ونقول إن الحديث الذي وصلنا عن طريق البشر هو مخالف لكلام نزل علينا من خالق البشر..
هذا ما ينطبق تماما على النقاش الذي أثير أخيرا حول حديث "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، وقد روي بصيغة الحزم والجزم واليقين والعموم، حيث إن أي قوم في أي مكان أو زمان لن يفلحوا أبدا إذا ولوا أمرهم امرأة..
لكن القرآن قدم لنا نموذجا ناجحا لامرأة تولت أمور قومها، بل وملكتهم، وأوتيت من كل شيء في الحياة الدنيا، وبنت عرشا عظيما، وجيشا قويا، ونظاما شوريا محكما، إلى آخره من إنجازاتها التي وصفها الله تعالى بالعظيمة..
بل إن ملكة سبأ أفلحت، وهي امرأة، فيما فشل فيه أعتى الرجال وأقواهم في التاريخ، قوة ومالا وعددا وحضارة، وهي الوصول إلى الله ومعرفته، واستشعار قوته وجبروته، فكان أن آمنت به، ودخلت الإسلام مع نبي الله سليمان، وهي الحقيقة التي جهلها وكفر بها، عنادا وحسدا، رجال أقوياء مثل فرعون وهامان وقارون وغيرهم كثير..
إن أجلّ فلاح في الدنيا وأنفعه في الآخرة هو معرفة الله، وقد توفقت امرأة سبأ في ذلك، بل الأفلح من ذلك هو أنها كانت سببا في فلاح قومها وإيمانهم بالله ونبيه سليمان، وبالتالي ضمنت لأتباعها ومحكوميها النجاة من عذاب الله، الذي لحق رجالا وأقواما عديدة في تاريخ البشرية، ولم تكن هذه المرأة مثل فرعون الذي أغرق جنوده وأتباعه أجمعين في اليم، أو مثل قارون الذي خسف به وبداره وماله..
الله تعالى أثنى على نظام سياسي ناجح تزعمته امرأة، ومدح رأيها وفكرها الذي أوصلها إلى الإيمان، وزكى حضارتها المادية، حيث وصف عرشها بـ "العظيم"، وعرش الله في القرآن هو العظيم، ولم يعاتبها وقومها في شيء سوى أنهم كانوا يسجدون للشمس ويعبدون الشيطان، وهي إشارات مثيرة في القرآن الكريم، والتي تستدعي منا التأمل والتدبر فيها، فيما الغالب في كلام الله هو الحديث عن الأنظمة السياسية (الرجالية) التي نجح في تدعيم أركانها رسل الله مثل سليمان وداوود وموسى ومحمد..
فكيف لرسول الله أن يقول "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، وهو الذي بواسطته وعلى لسانه نزل علينا القرآن الكريم، ويعلم ـ عليه السلام ـ علم اليقين أن هناك امرأة ذكرت في التنزيل، وكانت على رأس نظام سياسي عتيد، وحققت لقومها من التنمية البشرية والإيمانية ما عجز عنه الرجال الأقوياء؟
لماذا نتمسك بحديث بشري ونقيم الدنيا ولا نقعدها بسببه، ونشن الحروب على بعضنا لأنه بكل بساطة حديث رواه بشر اسمه البخاري؟
أليس من حقنا أن نشك في حديث مقارنة مع حقيقة قرآنية؟ وعلى افتراض أنه حديث صحيح أليس الأولى هو تقديم كلام الله عما سواه من الأحاديث التي رواها البشر؟..
ملحوظة: للمهتمين بالحديث النبوي، أومن إيمانا قويا أن البشر في مقبل الأيام سيهتدي إلى معرفة الحديث الصحيح من غيره وفق فتح علمي جديد مخالف تماما لما توصل إليه الأوائل.. في انتظار ذلك من حقنا ان نشك في الأحاديث والمرويات..