في أي حديث عن العلمانية، أول ما يجيبك به أي متبني لطرح "الإسلام دين ودولة" هو أن الإسلام لم يعرف قط الكهنوت والكنيسة التي اضطهدت العلماء وصادرت أعمالهم وأفكارهم بل حتى حياتهم. لكن ما لا يشير إليه بل يعملوا على إخفائه و ستره هؤلاء ،أن تاريخ الإسلام و والمسلمون و الدول الإسلامية، شهد ويشهد أشكالا وأنواعا من القمع والاضطهاد ،لا تقل بشاعة عما مارسته الكنيسة في تاريخها، وذلك ضد الإنسانية والتقدم وتكريسا لجميع أشكال التخلف والحيف والقهر والميز الاجتماعي و الجنسي ،ليس أقله منع النظام السعودي المدجج بجيش من فقهاء المنع والتحريم ،منح رخص السياقة للمرأة السعودية ،والذي يشكل استثناء عالميا في زمننا الراهن.
في اعتقادي وحسب ثقافتي غير المترامية الأطراف، لا يوجد أي نص قطعي الدلالة والثبوت أو حديث صحيح، بل ليس هناك أي نص ولو شاذ أو استثنائي أو هامشي أو حتى حديث ضعيف أو أحاد ،يشير من قريب أو حتى من بعيد إلى ما يشتم منه رائحة منع وحرمان النساء من سياقة السيارات أو ما دونها أو فوقها.كما ليس هناك أي قراءة ظاهرية حرفية أو أي شكل من أشكال التأويل لنصوص ما ،تفضي بنا إلى هذا المنع المجحف والمخجل في زمن "أنجيلا ميركل" التي حازت على الولاية الرابعة على التوالي،طبعا في إطار انتخابات شفافة نزيهة وديمقراطية.
ربما فقهاء المنع والتحريم يستنجدون و يستدعون المبدأ والقاعدة الفقهية التي وضعها الأجداد من الفقهاء " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " التي لا تفيدهم في شيء، أمام واقع متغير وفي صيرورة وتحول مستمر ومستجدات وإشكالات لا متناهية، أو كما قال الشاعر أبو تمام:
السيف (الواقع) أصدق انباء من الكتب ***في حده الحد بين الجد واللعب .
لا شيء يعلو على الواقع وعلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقضايا المرأة هي قضايا المجتمع ككل ولا تخص النساء لوحدهن. أين الحلال وأين الحرام في سياقة النساء لوسائل النقل العصرية ؟ بل أين الضرر في ذلك يا أصحاب منطق درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ؟. إن التشكيك في مدى كفاءة المرأة وأهليتها للحصول على حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والمدنية، لا تزكيه إلا سيادة العقول المتحجرة والمتكلسة. ليس هناك أكثر من هيمنة الأعراف البالية والعادات والتقاليد التي لفظها التاريخ ، ليس هنا أكثر من هيمنة سلطة القبيلة والعشيرة والمصلحة الضيقة والفكر الذكوري، ليس هناك إلا ثقافة الكره و الاحتقار لجنس المرأة بل حتى الخوف منها وليس عليها كما يحاولون أن يوهموننا بذلك، ما يشكك في قدرات المرأة وإنسانيتها .
لقد نص الفقهاء على أن ما تتعلمه المرأة نوعان :
أولا: ما هو فرض عين أي كل ما تصح به عقيدتها وعبادتها وسلوكها.
ثانيا: ما هو فرض كفاية أي ما تحتاجه الأمة.
إذن حاجة أمة الكهف ليست إلى نساء ،مستقلات ،متحررات، عالمات ،مشتغلات ومنتجات و واعيات ومؤمنات بقدراتهن الذاتية و سائقات لذواتهن ولسياراتهن ، بل إلى خجولات ،ضعيفات،عفيفات ،محصنات، طاهرات وحرائر ،حافظات لفروجهن وموءودات في لباسهن الأسود المغلق ،وفي بيوتهن قابعات كالثريات لا غير.
إن لسان حال فقهاء المنع والتحريم يقول : " نحن حراس الأطلال، نخشى كل ما نخشاه أن يكون لهذا الأمر من علاقة بالخارج و ذلك في إطار تحالف الرأسمالية العالمية و الشركات المنتجة للسيارات والصهيونية والماسونية وذلك من أجل التآمر لتخريب قيمنا واستباحة عرضنا وشرفنا . إن الدعوة إلى الترخيص للنساء للسياقة هي مجرد مقدمة وبوادر لتفسخ وانحلال المجتمع وتهديد لكيانه وللأمة الاسلامية جمعاء ولدينها الحنيف.لعن الله المرأة المسلمة التي تتشبه بالمرأة الغربية وتقلدها ولو في السياقة.اللهم قد بلغنا اللهم فاشهد.
أي مشروعية للخطاب وللنصوص الدينية التي يستند إليها هذا النمط من العقل السلطوي والفقهي المتحجر إلا خطاب الكراهية والحقد وكره العقل والخوف من كل ما هو جديد، خطاب العنف والانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان و أساسا حقوق النساء.
لماذا لا يعمل فقهاء التحريم والمنع على استحضار تاريخ أجدادهم إلا في ما يفيد رأيهم الشاذ ؟ هل المرأة المسلمة التي كانت تركب الجمال و ربما البغال والأحصنة في عهد النبي عليه السلام لا تعتبر مثال صارخ ضد ما يتشبثون به ويدعون إليه ؟. في إطار ما يسمونه اجتهادا، لا أدري لماذا لم يبادروا في ما مضى على وضع بعض الشروط حتى تتمكن المرأة السعودية من السياقة ؟ مثلا كأن يكون زجاج السيارة غير كاشف ،أو أن تكون السيارة بدون زجاج إلا من الزجاجة الأمامية كما هو شأن البرقع المفروض عليهن، وبذلك نحصل على السيارة المبرقعة بعد أن برقعنا عقولنا ،أو أن لا تقود المرأة السيارة إلا بوجود محرم معها يصاحبها أينما حلت وارتحلت ؟ .
فقهاء يكابرون تحت مبرر القيم والأخلاق،ويسبحون ضد تيار المستقبل والحياة ، في واقع يجرف ويلفظ كل ما يعترض طريقه، في زمن امتدت فيه العولمة والحداثة حتى إلى البيوت المظلمة. فالدين لله والوطن للجميع.
إن ما حققته المرأة السعودية اليوم ليس بالشيء الكثير مقارنة بما حققته المرأة في الغرب أو حتى بالمقارنة مع ما حققته المرأة المغربية أو التونسية أو اللبنانية ... لكن هو مكسب مهم وخطوة إلى الأمام . وكما قيل:" مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة ".