جاء في الحديث: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها".
الهجرة جزء جوهري في الحياة منذ الخلق الأول إلى نهاية الوجود البشري والعالم، هجرة في النفس وفي الفكر والثقافة والمعرفة والحضارة وفي الأمكنة والأزمنة، هجرة نحو الخير أو الشر. وهي نوعان، التي يؤطرها وعي إيجابي ورؤية وغايات واضحة ومحددة، وأخرى مجرد انتقال من حال إلى حال دون فهم ولا هدف ولا إدراك. فهناك من هاجر من التخلف والجهل إلى المعرفة والعلم والتقدم، وهناك من هاجر بسبب الفقر للبحث عن مورد للعيش الكريم وإصلاح وتحسين أوضاع شخصية وعائلية، وهناك من هاجر بسبب الظلم والاستبداد والتحكم كان بقرية أو حي أو بوطن إلى قرية أو حي أو بلد وحتى وطن آخر يشعر فيه بالطمأنينة والسكينة ويحقق فيه الاستقرار ويبني فيه نفسه.
إذن هناك أسباب موضوعية منها، العيش، الأمن، العلم، العمل، الدين، الفكر، الطمأنينة، عدم الاندماج، الرغبة في الابتعاد عن واقع معين.. وإذا نظرنا في التاريخ فسنجده مليئا بحالات الهجرة لأسباب مختلفة، منها هجرة المجموعة الأولى من المسلمين من مكة إلى الحبشة لأن فيها ملكا عادلا يومن بالنصرانية آواهم وحماهم ورعاهم، حيث قال لهم الرسول (ص): "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه...".. وعندما توفي النجاشي صلى عليه النبي (ص) صلاة الغائب.ثم هجرة النبي (ص) ومن تبعه من نساء ورجال مكة إلى المدينة المنورة، وهي التي أعتمد كتاريخ للسنة الهجرية.. حيث قال الرسول الكريم أيضا وهو خارج من مكة ومتجه إلى المدينة: "وَلَولَا أَنَّ أَهلَكِ أَخرَجُونِي مِنكِ مَا خَرَجتُ..."، وبقي بها إلى أن توفي.
إن الهجرة الحقيقية المستدامة هي التي يقوم بها كل إنسان تجاه نفسه نحو وعيه ولا وعيه ليهذبها ويربيها ويغديها ويعلمها، وليهاجر بها من ظلمات الفكر والنفس وكرهها وحقدها، إلى النور اللامحدود المحقق للتسامح والمحبة واحترام الآخر، وذلك بأن يهجر كل ما يلحق الضرر بالآخرين من ظلم واستبداد وإقصاء وتهميش وعنف وقهر.
إن وصف وتسمية المهاجرين اليوم "بالحراكة" و"غير الشرعيين" و"المتسللين"، والحديث عنهم بتهكم وإساءات، وأحيانا مواجهتهم بعنف لا مشروع وعنف باسم قوانين بلدان مختلفة، فيه غض طرف متعمد للتاريخ المشترك للهجرة بين سكان الأوطان والأمم والحضارات المختلفة، وحتى بالأمة والوطن الواحد، حيث بعد هجرة مجموعة من المسلمين العرب واستقرارهم بالمغرب الكبير الأمازيغي واندماجهم مع السكان الاصليين، فأصبح الإسلام دينا للأغلبية العظمى، فعربت قبائل كانت أمازيغية، وتحولت أخرى إلى أمازيغية، وتمازجت الدماء والثقافات، وتساكنت وتكاملت الأعراف والتقاليد... وهذا حال شمال إفريقيا كلها –على سبيل المثال لا الحصر- في علاقة بالمحيط القريب والبعيد..
إن الناس تواطأوا على إطلاق اسم "الحراك" على كل من أراد مغادرة وطنه إلى وطن آخر خارج الضوابط القانونية المعتمدة، وذلك في مقابل اسم "الهجرة غير الشرعية"، لكنهم في نفس الوقت يدعون له بالنجاح في المغادرة، ويطمئنون أكثر عندما يستقر بدار الهجرة وتسوية وضعيته، وتتضاعف فرحتهم عندما يعود إلى الوطن، وقد اكتسب الشرعية بهجرة لم يؤذن له بها فأصبح منتجا وفاعلا هناك، ويساهم في تنمية أسرته وبلده، كما يلعب أدوارا مهمة إلى جانب عشرات الآلاف من المهاجرين في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمالية ببلده، مثلهم مثل قطاعات أخرى وطنية استراتيجية، لكنه إن فشل في المغادرة أو في تسوية وضعيته ببلد الهجرة، فليس إلا "حراكا"... كما يمكن الإشارة إلى تحول هجرات من عدة مناطق بأروبا نحو الأرض الجديدة "أمريكا"، حيث هجروا معهم السود من إفريقيا لاستعبادهم واستغلالهم في بلاد تقطنها شعوبها الأصلية، فخيضت حروب وصراعات وتحولات في القوانين والأنظمة جعلت المهاجرين الأوروبيين والأفارقة، إضافة إلى السكان الأصليين، ثم موجات هجرات أخرى من مختلف بلدان العالم يشكلون أغلبية تحكم أمريكا المتعددة الهويات والثقافات التي تحولت إلى فاعل أساسي في السياسات والاقتصاد العالمي.
إن أسباب الهجرة، كما نجد في الديانات وفي عوالم الفكر والإيمان المختلفة، تكون سلسة وبدون صعوبات، وأحيانا تؤدي إلى صراعات ومواجهات بسبب رفض السكان الأصليين "للغرباء" أو "الدخلاء" الذين يختلفون عنهم في العادات والتقاليد والدين ونمط العيش.. وعندنا كانت الهجرة نحو أوروبا بناء على إرادة غربية استعمارية لتشغيل جزء من الساكنة في الإنتاج الأوروبي لتطوير اقتصادهم وقدراتهم، ومن أجل مواجهة النازية والفاشية والمشاركة في كل الحروب التي شهدتها الحقبة الاستعمارية، ومنها هجرة البعض من أجل طلب العلم، أومن أجل اللجوء السياسي، ومن أجل الاستثمار ..الخ... ويمكن أن نلاحظ هجرات أخرى نحو افريقيا وكندا وأمريكا وآسيا، أي أن جزءا مهما من المغاربة يعدون بالملايين أصبحوا مؤثرين بشكل أو بآخر في وطنهم والأوطان الأخرى في الاقتصاد والسياسة والتركيبة الاجتماعية بنقل وغرس ثقافة بلدانهم في مجتمعات مختلفة.. إن كل مغاربة العالم هم مهاجرون إيجابيون ومنتجون ومعطاؤون للبلدان التي استقبلتهم، وهم سفراء مشهود لهم بالكفاءة ومدافعون أقوياء عن الوطن .
إن الهجرة مطلوبة في مجالات متعددة من أجل مستقبل البشرية وتلاقحها وتطورها، لكن الواجب علينا جميعا كمسؤولين وكمؤسسات وكفاعلين سياسيين واقتصاديين ومدنيين أن نهاجر نحو الوطن وقضاياه وملفاته ومناطقه لنحقق كل متطلبات الاستقرار والعيش الكريم والتماسك الاجتماعي، بأن ننكب بجدية لجعل كل جهة وإقليم ومراكز الإقليم ولم لا الجماعات وفق تخطيط متكامل وتدبير حكيم يستوعب ليس فقط سكان المنطقة، بل مناطق أخرى في إطار من التكامل والتنوع المطور للقدرات والمحفز للعمل والمدعم والمواكب لكل المبادرات والبرامج والمشاريع لنصبح جميعا كثروة بشرية أغنياء بخيراتنا وقدراتنا وعطاءاتنا، وهي هجرة ضرورية وملحة ومستعجلة.
إن كل هجرة تحدث أو ستحدث يجب أن نعلم بها وبأسبابها، ويجب التعامل معها بربطها بالتنمية المستدامة.