لا علاقة لهذا السؤال بأسئلة الميتافيزيقا، حول الله والنفس والعالم وقلق الوجود أو العدم، ولا عن علاقة الله بالكون والخلق، بقدر ما يتعلق بمكانه ومكانته في سلوكاتنا اليومية وفي معاملاتنا مع أنفسنا ومع الآخر، كذلك عن استحضارنا له في كل خطاباتنا المتعددة وفي كل الأمكنة والأزمنة والمناسبات.
ربما لن أبالغ إن قلت إنه بإمكاننا إذا قمنا بجولة في إحدى المدن المغربية، وعملنا على جمع الآيات القرآنية الموزعة بين جدران البيوت والإدارات والمكاتب والمدارس وزجاجات السيارات والشاحنات وكذا رنات الهواتف المحمولة، الحصول على ما مجموعه ومكنونه ما بضفة الكتاب الكريم.
لا أدري في الوقت التي تكتب فيه هذه الآيات والأحاديث، هل كاتبها أو الآمر بكتابتها أو قارؤها يعي بمضمونها أم لا؟ وهل يعلم أن خطابها موجه بالدرجة الأولى إليه قبل غيره، أم يعتبر الأمر لا يعنيه هو، وبالتالي المقصود هم الآخرين دونه هو؟ بل ربما يحسب نفسه هو الآمر والواعظ وهو فوق الجميع.. لكم كل الوقت في استحضار بعض تجاربكم الشخصية.. لا أعمم حتى لا أكون من الجاهلين.
وأنت تدخل صالون إحدى البيوت ضيفا، تعترضك لوحة مكتوبة بالبنط العريض المذهب الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». هل لصاحب البيت من علاقة بهذه الآية وبمعناها؟ الجواب عند كل واحد منا حسب تجربته الشخصية.. لا أعمم.
في السيارة الخاصة على "المرآة العاكسة "le rétroviseur سبيحة معلقة أو كتاب قرآن من الحجم الصغير أو آية الكرسي أو دعاء سفر. وعلى الزجاجة الخلفية عبارات من قبيل "ما شاء الله" أو "هذا من فضل ربي" أو "حسبي الله ونعم الوكيل" أو "توكلت على الله" أو "لا تنسى ذكر الله".. ولكل واحد منا أن يستحضر السير على الطرق عندنا ومدى احترامنا لقانون السير وعدد المخالفات وعدد حوادث السير عندنا.. لا أعمم.
ماذا لو كتبت على الزجاجة الخلفية لسيارتي: "حذاري سائق متهور"، ماذا سيكون رد فعل الناس، وماذا سيكون رد فعلك أنت قارئ هذا المقال وأنت تقرأ هذه العبارة على زجاجة لسيارة أمامك أو حتى واقفة جنب الرصيف؟
وأنت راكب على سيارة أجرة يسترعي انتباهك تعبير "من غشنا ليس منا" مكتوب على ورقة أو حتى خشبة موجه نحوك حين تكون جالسا في الكرسي الأمامي، لكن دون أن يستحي السائق يعمل بجميع الطرق الملتوية لكي يسلبك بعض الدريهمات الزائدة عن مستحقاته.. أو كما لاحظ بعض الراكبين حين يجلسون على الكرسي وتنطلق سيارة الأجرة في الاتجاه المطلوب، فبدل من أن يشغل السائق العداد، فإنه يشغل القرص المضغوط ويسمعك بعض من آيات الذكر الحكيم.. لك واسع النظر في هذا.. لا أعمم.
قد تلتجئ إلى أحد المحامين وقس عليه سعادة القاضي، من أجل قضية ما، وأول ما يعترضك فوق مكتب الأستاذ لوحة مكتوب عليها الآية الكريمة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ». لابد أنكم قد سمعتم عن قصص كثيرة في النصب والاحتيال أبطالها محامون وقضاة، إن لم تكونوا أنتم من بعض ضحاياهم.. يقول المثل المصري "حاميها حراميها".. لا أعمم.
مقاهي ومتاجر استحوذت على الأرصفة وحولت شوارع المدينة إلى أنابيب، مما دفع بالمارة ليتراموا ويتزاحموا وسط الطرق المعبدة المخصصة للسيارات، متمايلين في سيرهم، يجتازون الطريق في كل مكان دون مراعاة أمكنة وممرات الراجلين، إن وجدت.. وأصحاب هذه المحلات التجارية حجاج، ربما للمرة الثالثة على التوالي، دون أن يعرف الاستحياء طريقه إلى ضمائرهم إن وجدت.. إن حاولت أن تعد أمثلة من هذه الطينة من الناس الذين تعرفهم فلن تكفيك أصابعك العشرة، أليس كذلك؟ لا أعمم.
وأنت تتجول بأحد الأسواق: ضجيج لا متناهي، واكتظاظ مكتمل، مرغم أنت لا مخير على سماع كل أنواع الموسيقى في نفس اللحظة وفي نفس المكان، كما أنت مرغم على سماع أشكال من القراءات والتجويد القرآني. "النظام من الإيمان ". إنك تحرف ديننا يا هذا فليس هناك من حديث من هذا القبيل.
في دكاكين بعض التجار لوحة تظهر أمامك لدرجة أنها هي من تراك ولست أنت من يراها. مكتوبة بخط واضح كبير "هذا من فضل ربي"، وهو لا يتوانى في استعمال كل أشكال التحايل والكذب والمجاملة الزائدة عن اللزوم حتى تتحول إلى نفاق لا يحتمل، كل ذلك من أجل تمرير زيادات غير مبررة وغير معقولة في أسعار غير محددة ولا معلنة أصلا وسلفا. "الله إجعل الغفلة بين البايع والشاري". "الله إنَعْلُ مثال". أين فضل الله في هذا؟ لكم من التجارب ما يكفي لتأكيد أو نفي الملاحظة. لا أعمم .
مع كل آذان للصلاة عدا صلاة الصبح، تتحول فضاءات المساجد إلى أسواق وضجيج وعراك وأوساخ متناثرة. وداخل المسجد قد تصلي وأنت غير خاشع، بل خائف حتى لا تعود إلى منزلك حافي القدمين، وعند الخروج الكل بتسابق إلى الأبواب في غياب لتسامح ولنظام طال انتظاره، مما يسبب في اكتظاظ وازدحام مفرط.. لا أدري إن كانت صلاتنا فعلا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أو حتى دون ذلك؟ وإن فهمنا معنى "المسجد بيت الله" لكم أن تعيدوا صياغة السؤال بالشكل الذي يناسبكم.. أعمم .
في ليالي فصل الصيف تكثر حفلات الزفاف التي لا تخلو من ضجيج وصخب مترامي الأطراف مسترسل حتى الصبح دون مراعاة للآخرين وأحوالهم. واقرؤوا ما قال نبينا عليه السلام وبما أوصانا: «ما زال جبريل يُوصيني بالجار حتى ظنَنْتُ أنه سيورِّثه».. «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤذِ جاره».. الكلام بعد هذا النور ثرثرة ومضيعة للوقت. "الله إنْعَلْهَ عادة".. أعمم.
مشهد لشاب أو لرجل كهل يعاكس ويتحرش ببنت أو امرأة وسط الشارع العمومي، بعد أن أدى صلاة العصر وفي انتظار آذان صلاة المغرب. فلا حرج عليه، فالضمير غير مشغل والفحولة سيدة الموقف. لا أعمم.
راكب على سيارة قد تكون بالية أو فاخرة، يفتح الزجاجة الجانبية ليتكرم على المارة بعلبة سجائر فارغة، أو قارورة مشروب ما، أو أعقاب سجائر، أو على الأقل بصق. فالتبول، التنخيم، البصق، تفريغ محتوى الأنف المثقل، التدخين ثم القذف بأعقاب السجائر في كل الاتجاهات وفي كل الأمكنة حتى دون إشعار. أمور متعود عليها ولا تشكل أي إحساس بذنب أو حرج أو استحضار لضمير قد طال غيابه. ومع ذلك "النظافة من الإيمان". أعمم.
في الشارع العمومي بعض المقاهي ذات الأرصفة والموقع الاستراتيجي يثير انتباهك نخبة من الشباب، وحتى الكهول، همهم الأول الحصول على الأمكنة ذات "بعد النظر" من أجل ملاحقة الأجساد الأنثوية (عيون تتحول إلى سكانيرات وتشتغل بالأشعة إكس): «قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَع». ليس هناك أي مشترك في القيم التي تطلبونها.
في يوم الجمعة وأنت تتجه إلى إحدى الإدارات العمومية مع الصباح، تنتظر الموظف المسؤول، يأتيك بعد ساعة أو نصف ساعة من الـتأخير عن الوقت المحدد إداريا، وهو مكسي بزي أبيض يعلن عن فائض من الإيمان، لكن قبل أن ينتهي الوقت المحدد للشغل ينسحب تاركا مصالح الناس دون أن تقضى كي يأخذ المكان الأمامي قرب الإمام أو على الأقل ليستظل داخل المسجد وهو يسمع إلى الفقيه يتحدث في خطبته عن موضوع "الإخلاص في العمل" دون أن يعنيه الأمر في شيء، فالضمير غير مشغل. لا أعمم.
قد تقصد إحدى دكاكين الحرفيين، وأول ما يلتقطه بصرك لوحة بالية مكتوب عليها "رحم الله من عمل عملا فأتقنه"، وبعد احتكاكك به تتوصل من نتيجة عمله أنه لا يعرف أي معنى للعمل ولا للإتقان ولا حتى للرحمة، مما يجعلك تنتقل إلى حرفي آخر بعد أن ضيعت من وقتك ومالك وأخذت نصيبك من القلق. لاشك أن الكثير منا وقع في هذه التجارب.. لا أعمم.
على جدران إحدى المؤسسات، خصوصا المدارس تسترعي بصرك كتابة غليظة "النظافة من الإيمان"، يبدو من خلال وضع وحالة المؤسسة أن أصحابها لا يعرفون معنى النظافة ولا معنى الإيمان وهذا ما تكشف عنه الأوساخ و الأزبال المترامية في كل الأمكنة دون استثناء . لا أعمم.
هناك سلطة اللامعنى والمألوف والمتعود عليه والتقليد، وكذا المال امتد حتى إلى المظاهر والرموز الدينية فميعها ونخرها من الداخل وخربها وتم إفراغها من محتواها الإنساني، من جوهرها ومضمونها، وجعلها بلا روح وبلا معنى، وأصبحنا بدون ضمير. بل حتى المعنى فقد معناه. مع الأسف والأسى، وبكل إصرار هناك العديد من الذين ينتشون ويعتبرون ذلك من مظاهر "الصحوة الإسلامية" لا أدري إن كان الأمر يتعلق "بصحوة " أم "بدوخة"؟.
الظاهر أن الله خرج من القلوب (لا أعمم)، ووزع وألصق على الأوراق واللوحات والجدران والزجاجات كما في رنات الهواتف النقالة. فأين نحن من الله في كل هذا؟