مصطفى المنوزي: ضد أسطرة المظلومية وتبخيس النضال الحقوقي

مصطفى المنوزي: ضد أسطرة المظلومية وتبخيس النضال الحقوقي

يتحدث بعض الإعلاميين عن «تراجع» بل عن «ردة» حقوقية، والحال أنه لم يسبق لهم أن أقروا بأي مكتسب حقوقي تم تحقيقه.. فوراء كل مكتسب تضحيات جسام.. هي مفارقة مقبولة إذا أخذ بعين الاعتبار تكتيكات «النضال» اللفظي، الذي يتخذ شكل الطابع الموسمي، المنسجم مع  مناخ «الابتزاز»، لكن غير المقبول هو اختزال الجمعيات الحقوقية «المكافحة والمستقلة» في بضع من الكل المتعدد والمتنوع، وعلى رؤوس الأصابع، بل الأدهى أنه يتم اعتبار بعض المظلومين مناضلين ودكاترة في التحليل والتوجيه والنصيحة «الإعلامية»، وهم بذلك مالكو الحقيقة «الثورية» «الدائمة». 

والحال أن المناضلين الثوريين الحقيقيين هم المالكون لوسائل التحليل العقلانية والواقعية، فهم الواعون بأهمية التمييز بين العمل السياسي وبين العمل الجماهيري/ الإصلاحي، بحكم أن العلاقة بالحكم وتملك لسلطة السياسية هي المتحكم في التحديد.. وهو شأن لا يخص الحقوقي مباشرة، والنظام لديهم هو نسق من البنيات المتناقضة والمتنوعة والمعقدة التركيب.. لذلك فالحقوقي ملزم بتحصين المكتسبات وحمايتها والنضال من أجل تحقيق مطالب أخرى.. وبالتالي ليست العدمية، ولا المزايدة، من شيمه لأنها من جهة ثانية قرينة على عجزه وقصور تأثيره وشلل حركيته.. فدوره هو توسيع دائرة الضوء، إن كان لها محل، بالسير وفق خطين متوازيين، التفاوض والضغظ ثم الترصيد والتطوير، وهو واع بطبيعة السلطة باعتبار أن الاستبداد جوهرها، وليس اختيارا أو قرارا أو نزوة، والفساد وسيلة ومظهرا للاستبداد وليس غاية في حد ذاته.

وإذا كان الإعلامي كالسياسي/ والكائن الانتخابي يشتغلون على إيقاع الزمان السياسي، فإن الحقوقي مفترض فيه أن يشتغل على البعد الإنساني، خلال صيرورته النضالية، أي يشتغل على إيقاع الزمن الاجتماعي، فهو لن تلهيه الخروقات العابرة، هنا وهناك، إلا بقدر تراكمها البنيوي ووقعها المتواتر في العلاقة مع  الخطورة والجسامة، الماسة بالحق في الحياة والكرامة. من هنا  فالإعلامي الموضوعي هو الذي يتخلى عن دور الإطفائي، أي محاولة إخماد النفس الحقوقي المستمر في الزمن، وكذلك بالتخلص من مهمة تحريض المواطنين ضد المناضلين المعتدلين المتمسكين بالحرية المقرونة بالاستقلالية والكرامة. فليس معيار التمييز والتفاضلية هو من يعارض أكثر ويحتج أكثر، ولكن هو من يحقق المكتسبات ويراكم المستحقات، ويحول دون تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بأقل تكلفة وبأكبر التضحيات العقلانية والمجهود المعرفي. فالفعل الحقوقي، رغم طبيعته الليبرالية/ الإصلاحية يحتاج إلى نفس ثوري وليس إلى «ثوار» يتنافسون حول من «يصرخ» أكثر، إرضاء لإعلام «الإثارة» و«تميزا» على أنقاض الغير.. فالشجاعة تقتضي المساهمة في تجويد الفعل الحقوقي من أجل إرساء ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة، ومن أجل إعمال مبدأ عدم الإفلات من العقاب.. وهذا يشترط توحيد المجهودات وتنسيق الإمكانيات، فيما بين مكونات الحقل الحقوقي، الذي تسعى الدولة، هذه الأيام، إلى إعادة تشكيله وهيكلته، بالاستناد، أساسا، على الشروخات التي تعتري التحالفات والتنسيقيات، وبتعميق الاختلافات.. ولعل الحراك الحقوقي/ المدني الجماعي  لمواجهة «صيحة» وزير الداخلية التكفيرية والتخوينية، بغض النظر عن المناهضة الصريحة للقرارات والتشريعات المناوئة للمكتسبات والمجهضة للبناء الدمقراطي والحقيقة والإنصاف، وكذا تلك المشرعنة لعدم الإفلات من العقاب، لخير نموذج على ما يتطلبه الأمر.

وكخلاصة، إن الحقل الحقوقي، هو مجال للتعاون والتنسيق والتضامن وليس مجالا للتنافس غير المشروع والمزايدات السياسوية والإعلامية، وهو ما يستدعي النضال المشترك من أجل تجسيد الحماية الكاملة للمدافعين عن حقوق الإنسان بدون استثناء، والكف عن تنقيط المجهود وتصنيف الاختيارات. فلا يمكن إصلاح الخطأ بأخطاء، لأن الصراع السياسي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي سيظل مستمرا ما دامت المصالح متناقضة والمقاربات متباينة.. والعبرة بمشروعية الخطأ في الممارسة وعدم شرعية الخطأ في المبدأ، وان كل نقد فهو مشروع، ما عدا النقض الذي يحتكره التاريخ  للقاضي فقط، القاضي النزيه والمستقل والمستقيم  افتراضا .