عرف المغرب منذ الاستقلال هزات وانقلابات زعزعت استقراره وجعلت وحدته باستمرار في خطر، أحداث الريف، أحداث الجنوب، أحداث الدار البيضاء سنة واحد وثمانون.. انقلابات عدة، محاكمات وإعدامات، لم يسلم منها حتى الأستاذ عبد الرحمان والعديد من زعماء الأحزاب السياسية، المكتب السياسي للاتحاد الإشتراكي الذي تم اعتقالهم جملة لمدة سنة في سجن ميسور، سنة واحد وثمانين، وتوالت الاضطرابات والانقلابات التي تزعمها العسكر وفشلوا في معظمها وكانت نهايتهم مأساوية، كانت الأحداث التي تمخضت عن الإضراب العام الذي دعت له النقابات الكبرى في سنة 1990، والتي خلفت بدورها ضحايا واعتقالات بالجملة.
المغفور له الحسن الثاني استقر رأيه على طَي صفحة سنوات الرصاص، وفتح النقاش مع زعماء كانوا في المنفى من أجل مصالحة وطنية والعودة إلى المغرب وإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين الذين عانوا لسنوات في سجون رهيبة، منهم من قضى سنوات بدون محاكمة، ومنهم من قضى نحبه ودفن في مقابر مجهولة أوفي المعتقل نفسه، كسجن تازمامرات الرهيب الذي قضى فيه العديد من المعتقلين سنوات طويلة في ظروف لاإنسانية، لم يستطع أحد خلال سنوات الحديث عن المعتقلات السرية ولا عن مكان العديد من الذين تم اختطافهم ولم يظهر لهم أثر لحد الساعة.
كان هذا واقع مؤلم عاشه المغرب لسنوات حتى سُميت بسنوات الرصاص، التي كان فيها جلادون يطبقون الأوامر وينفذون مسلسل الاختطافات والاعتقالات والتصفية.
تجاوز المغرب المرحلة بصعوبة بعد قرار عودة المنفيين ودخول مسلسل المصالحة لطي صفحة سنوات الرصاص وقبول التعويض.. تحمل الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي مسؤولية الحكومة الانتقالية من أجل التأسيس لبناء دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات.. وقررت الأحزاب الوطنية الانخراط في هذا المسلسل من أجل المصلحة العليا للبلاد.. لم تكن المرحلة سهلة في ظل استمرار سياسة التحكم وسيطرة المؤسسة الملكية مدعمة من طرف المؤسسة العسكرية التي كانت تشكل خطرا عيها باستمرار، لأنها قامت بمحاولتين انقلابيتين لزعزعة استقرار المغرب وفِي مدة قصيرة.. هذه المؤسسة التي اتهم رموزها بتصفية المعارضين، علاقة الجنرال أوفقير والدليمي باختطاف عريس الشهداء وقتله وإذابة جثته بالأسيد، لم تتصرف بمحض إرادتها بل بإيعاز من جهة كانت لا ترغب في استمرا المصالحة لأنها تشكل بالفعل خطرا على مستقبل النظام الملكي.
ينتقل الحسن الثاني إلى الدار الآخرة، وقبل وفاته يرتب كل ظروف الاستقرار لخلفه محمد السادس، الذي سار على نهج الخطة التي وضعها والده، من أجل انتقال ديمقراطي، مهندسوه عبد الرحمان اليوسفي وحكومة فيها تقريبا كل الأحزاب الوطنية.. لكن بعد مرور الأربع سنوات الأولى، والتي جرت فيها انتخابات تمخض عنها تصدر أحزاب الكتلة الوطنية، انتهت محطات حكومة الانتقال الديمقراطي وجرت انتخابات تصدرها الاتحاد الاشتراكي، وحاول مرة أخرى الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي تشكيل الحكومة، إلا أن الملك لم يكلفه بتشكيل الحكومة، بل اختار إدريس جطو كتقنوقراطي لتشكيل حكومة جديدة.. وهنا حصل تراجع لم يقبله الأستاذ عبد الرحمان، فقدم استقالته ككاتب أول للحزب، وخرج من الساحة السياسية بصفة نهائية، وعاد للعيش في فرنسا.
لم يعرف استقرارا سياسيا واقتصاديا خلال كل هذه السنوات واستمر الاحتقان بسبب الأزمة الاقتصادية، واستمر ارتفاع الدين الخارجي وتأزمت الأوضاع الاقتصادية.. لم يحدث الانفراج الذي كانت تسعى إليه الأحزاب السياسية، واستمرت الاحتجاجات في جل المدن المغربية والإضرابات، رغم أن لجنة الإنصاف والمصالحة خرجت بتوصيات.. لكن هذه التوصيات بقيت حبرا على ورق لسنوات.. ولعل من نتائج عدم تفعيلها الاحتجاجات التي عرفتها عدة مناطق في شمال المملكة وبعدها عمت مختلف مناطق المغرب التي عانت من التهميش والإقصاء والتهميش مما جعل العديد من المحللين السياسيين يعتبرونها انقلابات مدنية بعكس الانقلابات العسكرية التي عرفها المغرب في عهد الحسن الثاني، والتي فشلت في مجملها.
استمرار الحراك في الحسيمة وامتداد الاحتجاجات للعديد من المدن الأخرى في مختلف جهات المغرب، دليل أن المغرب لم يسلم من الربيع العربي الذي ينذر بالتوترات اجتماعية تنذر بكارثة، تفاقم البطالة وأزمة الغلاء وارتفاع الدين الخارجي، يجعل المغرب فوق فوهة بركان سينفجر، والذي سيخدم هذا البركان قرارات حكيمة لملك البلاد من خلال عفو شامل عن كل المعتقلين السياسيين، ووقف موجة الاعتقالات والتجاوزات التي مازالت مستمرة.. ولا مخرج من الأزمة إلا بمصالحة وطنية وبقرارات مسؤولة.
فإذا كانت الانقلابات العسكرية التي عرفها المغرب في عهد الحسن الثاني فاشلة لأنها لم تستمد قوتها من الشعب المغربي، فإن الانقلاب المدني الذي يقوده المهمشون والمستضعفون في مختلف المناطق المغربية يشكل خطرا حقيقيا على وحدة البلاد وتماسكها، وبالتالي من مصلحة البلاد بكل مكوناتها السياسية العمل على حماية المؤسسة الملكية، والتي برجب أن تكون فعلا حامية مصالح الشعب وضامن وحدة المغرب واستقراره، وحريصة على رفع الظلم ومحاسبة بارونات الفساد من خلال تطبيق القانون واحترام دستور البلاد الذي صوت عليه الشعب المغربي سنة 2011