رغم أن الملك محمد السادس ألف التنقل إلى مدن الشمال منذ اعتلائه العرش في صيف 1999، فإن زيارته لمدينة الفنيدق يوم 27 يونيو 2014 ستظل المحطة السوداء في نظر الإسبان، ليس لأن زيارة الملك محمد السادس للفنيدق آنذاك تمت للوقوف على حصيلة عشرية إحداث العمالة المجاورة لسبتة المحتلة فقط، بل (وهذا هو المهم) كانت تلك الزيارة تحت كشافات الإسبان الذين لم ينظروا بعين الرضى للرسائل التي بعثها محمد السادس من الحفل الديني الذي احتضنه مسجد محمد الخامس بالفنيدق آنذاك.
ففي ذلك اليوم (27 يونيو 2014) سيؤدي الملك محمد السادس، بوصفه أمير المؤمنين، صلاة الجمعة بالمسجد المذكور، واختار لإمامة الصلاة إماما من مدينة سبتة المحتلة، في شخص سي أحمد بنحمو، خطيب مسجد الأمير بحي «بريسيبي» بسبتة المحتلة.
وهنا بيت القصيد، فالمغرب يضم حوالي 60 ألف إمام موزعين على 50 ألف مسجد تقريبا، ومع ذلك ارتأى أمير المؤمنين الملك محمد السادس، أن تكون صلاته ليوم الجمعة وراء الخطيب سي أحمد بنحمو تحديدا. وهو ما جعل المراقبين يلتقطون الرسائل التالية:
أولا: الخطيب بنحمو محسوب على مسلمي سبتة (إذا استعملنا بتحفظ القاموس الإسباني الكولونيالي)، وهو من الأئمة المعروفين في سبتة باعتناقه للتدين المغربي والمنافح عن المذهب المالكي، فضلا عن كونه منتسبا للزاوية التجانية، بل يعد هو المسؤول عن هذه الزاوية بالمدينة المحتلة. وإذا علمنا أن إسبانيا ظلت دوما تستعمل الورقة الدينية لفصل مغاربة سبتة ومليلية المحتلتين، دينيا عن المغرب، آنذاك نفهم رمزية المناداة على بنحمو للإمامة بأمير المؤمنين في الفنيدق، أي أن الرابط الديني أقوى من أن تفلح قوة استعمارية في تكسيره، بدليل أن هذه الرمزية تأتي لتزكي خطوة مماثلة قام بها الملك في ليلة القدر من رمضان 2013، حينما كان لفقهاء سبتة المحتلة حضور قوي في صلاة التراويح بمسجد محمد الخامس بالفنيدق، إذ كان من بين الأئمة الذين صلى وراءهم الملك آنذاك خطيب مسجد سيدي مبارك بسبتة المحتلة. وهذا ما يقود إلى النقطة الثانية..
ثانيا: حي «بريسيبي» بسبتة المحتلة، من الأحياء التي فرخت فيه إسبانيا مختلف الجمعيات الحاملة للواء «المعارضة الدينية» للمغرب، فضلا عن كونه من الأحياء التي تغاضت فيه إسبانيا عن تناسل التيارات الإرهابية والجهادية والمتطرفة فيه. بدليل أنه ما من خلية إرهابية تفكك بشمال المغرب، إلا وتكون بصمات التيارات الجهادية بمليلية وسبتة المحتلتين حاضرة. وبالتالي فالمناداة على الإمام بنحمو من عمق حي احتضن البيئة الجهادية التي ربتها ورعتها إسبانيا، معناه أن المغرب يخير إسبانيا بين الإسلام المعتدل والمنفتح، أو التطرف واللعب بالورقة الدينية التي قد تحرق إسبانيا أكثر مما ستحرق المغرب.
ثاثا: إسبانيا لم تتوان عن التدخل في استغلال الورقة الدينية للتشويش على المغرب وابتزازه. بدليل أن وزارة العدل الإسبانية (الوصية على الحقل الديني) استعملت كل الطرق لاستغلال «المعارضين الدينيين بالمغرب»، عبر احتضانهم وتمويلهم وتسخيرهم في التقاطبات الداخلية المغربية وحثهم على قطع حبل السرة بين المغاربة السبتيين والمليليين وإمارة المؤمنين برفض التعامل مع وزارة الأوقاف، إلا أن الخطة فشلت وازداد التئام الأئمة والخطباء والقيمين الدينيين بالمدينة المحتلة حول إمارة المؤمنين. فكانت المناداة على الخطيب سي بنحمو (وهو الصوفي المعتدل) كرسالة مشفرة للإسبان «هذه يد المغرب الممدودة لتعزيز الإسلام المعتدل الذي يعد أيضا جزءا من موروث إسبانيا ومن ذاكرتها (مكث المسلمون ثمانية قرون هناك)، وبالتالي على إسبانيا التعاون لترسيخ هذا النموذج. فالمغرب ناصح أمين حتى لا تكتوي إسبانيا بالنار، إن لم نقل أنها اكتوت فعلا».
رابعا: الملك بإسبانيا له سلطة زمنية على مواطنيه الإسبان، لكن من الناحية الروحية فالمسيحيون الإسبان يدينون بالولاء لسلطة الفاثيكان روحيا. وإذا كان هذا الحق مكفولا لهم، فلماذا الحرص على انتهاك حق المغاربة في إشهار ولائهم الديني للمغرب؟ فإسبانيا تقيم الدنيا وتقعدها لتحرم المغاربة بسبتة ومليلية المحتلتين، بعدم التقيد برؤية هلال رمضان مثلا مع المغرب، وتحرص على نسف قانون الأحوال الشخصية كي لا تباشرها المحاكم المغربية على أساس تفويض ذلك لجمعيات تبيع وتشتري الوثائق تحت حماية الإدارة الإسبانية، وبالتالي فصلاة الملك وراء الإمام بنحمو كانت أيضا - في رأي المراقبين- رسالة لحكام مدريد. فإن كانت إسبانيا ترفض وتعادي حق المغاربة الطبيعي في استرجاع سبتة ومليلية المحتلتين فليس لها الحق إطلاقا في حرمانهم من إشهار ولائهم للسلطة الروحية لأمير المؤمنين. ومن مصلحة إسبانيا أن تحمي الأمن الروحي للمغاربة الموجودين فوق ترابها وداخل المدينتين المحتلتين، لأنهم ليسوا جزءا من ذاكرتها المشتركة (8 قرون من الحضور المغربي في إسبانيا أيام المجد الإسلامي) بل هم أيضا جزء من رفاهيتها.
لهذه الاعتبارات، فكل قراءة لعبور مغاربة "الأسلاك الشائكة" للحدود الوهمية بين الفنيدق وسبتة "المغربيتين"، يجب أن يستحضر هذا المعطى.
أما البؤس والفقر، فالمراقب الحصيف لا يحتاج لرؤية صور او مقاطع فيديو ليقف على حجم الهشاشة بالمغرب، فتقارير المنظمات الدولية والأممية طافحة بالأرقام والمعطيات المبنية على مؤشرات صاغتها العقول الغربية. ويكفي أن يحرك المغرب هذه الورقة الدينية حتى تنزعج إسبانيا الفرنكاوية
ضدا على الحقوق "الشرعية" والتاريخية للمغاربة في سبتة ومليلية المحتلتين.