اهتز الرأي العام الوطني لفاجعة الضحايا 28 من عاملات وعمال معمل النسيج الذي يشتغل خارج القانون، والتي كشفت عن هول الكارثة في أبعادها الاجتماعية والقانونية والدستورية. فكارثة مقتل هذا العدد من الضحايا ليست عارضة ولا قضاء أو قدرا، بقدر ما هي نتيجة حتمية للفساد الذي بات ينخر دواليب الدولة ويمس بهيبتها وهيبة كل المؤسسات الدستورية . فالفاجعة عرّت عن حقيقة وجود دولة داخل دولة، دولة لا تنضبط للدستور ولا تحتكم للقوانين، بل لها نظامها الخاص يعطّل كل التشريعات الواجب تطبيقها لضمان الصالح العام . إنها منظومة الفساد الذي يتخذ له من مؤسسات الدولة مرتعا له ومظلة تحميه.
وما كان للفساد أن يتغوّل لولا وجود حماة نافذين في السلطة ومتحكمين في دواليب الإدارة ومؤسساتها. فمن المخجل أن تعلن السلطات المحلية لمدينة طنجة أن المعمل الذي قُتِل في قبوه 28 ضحية ويشغّل 130 عاملة وعامل على الأقل، "معمل سري". فهذا الوضع يمس بهيبة الدولة والقانون من حيث كونه يلغي وجودهما ، ومن ثم يشجع على تعطيل القانون وتحويل الإدارة في خدمة وحماية الفساد. إذ كيف يعقل ألا ترى عيون السلطات (المجلس الجماعي ، السلطة المحلية والإقليمية والولائية ، مندوبية الشغل ..) عدد العمال (130) وهم يترددون يوميا وعلى مدار 24 ساعة ، على "المعمل السري" وكذا عمليات إدخال وإخراج المنتوج. إن كارثة طنجة هي نتيجة حتمية لـ:
1 ــ تعطيل الدستور الذي يربط في فصله 145 بين المسؤولية والمحاسبة . عشر سنوات مرت على اعتماد الدستور ولا زال هذا الفصل معطلا كما هو حال كثير من الفصول الأخرى . وتتحمل حكومة البيجيدي المسؤولية الكاملة على تعطيل الدستور وعدم تفعيل الفصل 145 منه . الأمر الذي شجع ويشجع أطراف عديدة ، حتى داخل الدولة وفي دواليبها على التستر على الفساد وممارسته حتى صار المغرب يحتل المراتب المتأخرة في مؤشر الرشوة.
2 ــ حماية الحكومة للفساد ،خصوصا مع اتخاذ رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران قرار "عفا الله عما سلف" الذي سار عليه خلفه العثماني . فالحكومة تتوفر لها من النصوص الدستورية والتشريعية ما يفرض عليها التصدي للفساد بكل أشكاله وأساليبه .
3 ــ تشكيل لجان استطلاعية مؤقتة عوض لجان تقصي الحقائق التي يخول الدستور لرئيس المجلس ، في فصله 145 ، إحالة التقارير على القضاء . فضلا عن هذا جمّدت الحكومة عددا من المهام الاستطلاعية التي طالبت بها الفرق البرلمانية في موضوع : المحروقات، السجون، المستشفيات، الملاعب، القنصليات، المقالع وغيرها . وقبل هذا وذاك ، فالواقع يثبت أن لجان الاستطلاع ولجان التحقيق صارت آليات تضمن للمتورطين في الفساد والنهب والحوادث الخطيرة الإفلات من العقاب، وتعطل مجرى العدالة .
4 ــ تجميد تقارير المجلس الأعلى للحسابات ، وهي بالعشرات . ففي يونيو 2020 انتفض السيد إدريس جطو في وجه البرلمانيين لكونهم لا يعيرون اهتماما لتقارير المجلس "المجلس ينجز بين 40 و50 كل سنة، و250 مهمة على مستوى المجالس الجهوية للحسابات .. حتى حنا كنتساءلو معكم على مصير هاد التقارير، ونتوما راكم مشرعين تنتمون لمؤسسة ضخمة لها سلطة وصلاحيات"،"أنتم سلطة قوية تشريعية ورقابية، ملي كنقدمو لكم التقارير وكدرسوهم شنو كدير بهم؟" . فلا الحكومة قامت بواجبها الدستوري ولا البرلمان يقوم بأدواره التي ينص عليها الدستور.
5 ــ المدن المغربية الكبرى تعج بالمعامل التي تشتغل خارج القانون في تواطؤ تام مع السلطات العمومية ، التي كما تغض الطرف عن احتلال الملك العام ، تفعل بالمثل مع هذه الوحدات الإنتاجية غير القانونية. ومعمل طنجة ما هو إلا ورقة التوت التي عرّت المستور.
إن خطر الفساد والارتشاء استشرى في كل القطاعات وتغوّل داخل الدولة ، لدرجة باتت تبدو عاجزة أمام أخطبوطه على تطبيق القانون وتفعيل الدستور. ولطالما نبّه جلالة الملك في خطبه ورسائله إلى ضرورة محاربة الفساد بكل صرامة . ففي رسالة الملك إلى القمة 31 لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي في يوليوز 2018 ، شدد فيها على: “ينبغي أن نضع محاربة هذه الآفة في صميم أولوياتنا”. فالفساد ، كما جاء في الرسالة الملكية “يشكل أكبر عقبة تعيق جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحد من طموح شبابنا ..
فالفساد ينطوي أيضاً على عبء اقتصادي، يُلقي بثقله على قدرة المواطنين الشرائية، لا سيما الأكثر فقراً منهم. فهو يمثل 10 بالمائة من كلفة الإنتاج في بعض القطاعات الاقتصادية". ثلاث سنوات تمر على الرسالة الملكية دون أن يصدر عن الحكومة ما يفيد تحركها لمحاربة الفساد.
أكيد أن الفساد لا يهدد الاقتصاد الوطني وحده ، بل يهدد وجود الدولة في حد ذاتها ويفقد مؤسساتها الدستورية كل هيبة ، فضلا عن "تقويض سيادة الحق والقانون؛ كما يؤدي إلى تردي جودة العيش، وتفشي الجريمة المنظَّمة، وانعدام الأمن والإرهاب"(الرسالة الملكية) . وهاهو اليوم يهدد حياة المواطنين في المعامل كما المنازل والشوارع والطرقات. الأمر الذي يطرح سؤالا مركزيا : ما فائدة الدستور والقانون والمؤسسات الدستورية وتلك الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي تمتد من 2015 إلى 2025 ؟ وما جدوى الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها في ظل تفشي الفساد والارتشاء وعجز الحكومة عن تفعيل الدستور وتطبيق القوانين ومحاكمة الفاسدين ؟ إن الوضع لم يعد يُحتمل ، فقد بات مستعجلا مواجهة خطر الفساد والارتشاء بكل حزم وتقديم كل المتورطين فيه إلى المحاكمة . فلا أمل في الحكومة لمواجهة هذا الخطر ، وهي التي باتت غالبية المواطنين تفقد الثقة فيها .إذ لا يمكن لمن عفا عن الفاسدين أن يحارب الفساد. الأمل الوحيد الذي يتعلق به المواطنون لمحاربة الفساد هو الإرادة الملكية .