تعد الأرقام السابقة الأرقام السابقة فلكية، وتؤمن للجزائر عائدات خيالية. ولكن عندما ننظر إلى الاقتصاد الجزائري نجد أنه يعاني من مشاكل كبيرة نتيجة العجز المستمر في الميزانية، ما انعكس سلبا على تنمية هذا البلد. وجراء ذلك، صار الشعب الجزائري يعاني من مشاكل اجتماعية تخنق أنفاسه، حيث أصبحت الأغلبية الساحقة من أفراد الشعب الجزائري تعاني من ضائقة العيش؛ فلا سكن، ولا تعليم، ولا تطبيب، ولا قدرة على تلبية الحاجات اليومية الغذائية الأساسية لفقراء الشعب الجزائري الذين تتزايد أعدادهم باستمرار، إذ يصطف الناس في طوابير لوقت طويل لاقتناء لتر واحد من الحليب، كما أن هناك مواد غذائية كثيرة منعدمة في السوق.
ويعود هذا المشكل الغذائي إلى السياسة التي انتهجها "هواري بومدين" في مجال الفلاحة خصوصا، والاقتصاد عموما. فإذا كانت فرنسا، خلال أيام الاستعمار قد أحاطت القطاع الفلاحي الجزائري بعناية خاصة، حيث أقامت ضيعات كثيرة، وزرعت ملايين الأشجار وهيأت الخيول لتمكين البلاد من إنتاج القوت اليومي للشعب الجزائري، فإن بومدين أهمل القطاع الفلاحي تماما، وقام باقتلاع الأشجار، إذ أراد أن يصبح بلده صناعيا، اعتقادا منه أن ذلك سيساعد الجزائر على أن تصبح بلدا متقدما، وأن الصناعة ستمكنه من السيطرة على أفريقيا والشرق والأوسط وشمال أفريقيا كذلك. وهي نزعة توسعية ما تزال عواقبها الاجتماعية والسياسية والدولية قائمة إلى اليوم. لقد كان بومدين لا يعي أن التصنيع لا يلغي التركيز على القطاع الفلاحي، لأن الفلاحة مزدهرة في كل البلدان المتقدمة صناعيا. لهذا كان منظوره معكوسا يتعارض مع المنطق السائد كونيا.
وإذا كان المغرب ينتج مائة في المائة مما يستهلكه من مادة الحليب، فإن الجزائر تستورد تسعين في المائة مما تستهلكه من هذه المادة، كما أنها تستورد اللحوم ومواد غذائية أخرى كثيرة من الخارج. هكذا، يقف الجزائريون اليوم في طوابير لوقت طويل لاقتناء ما يحتاجونه من مواد غذائية وخضر وفواكه تعاني السوق الجزائرية معاناة شديدة من ندرتها وغيابها... وفي الوقت الذي كان فيه الملك المرحوم الحسن الثاني يشيد السدود ويعتمد سياسة فلاحية مدروسة انعكست إيجابا على المعيشة اليومية للشعب المغربي إلى الآن، كان هواري بومدين يدمر القطاع الفلاحي الجزائري، ما انعكس سلبا على الحياة المعيشية اليومية للشعب الجزائري إلى يومنا هذا. وعوض أن يقوم الجنرالات المتحكمون في الجزائر بإحداث قطيعة مع سياسة "بومدين" التوسعية، ويهتمون بما يحسن الحياة المعيشية اليومية للجزائريين، فإنهم ما يزالون مستمرين في اتباع تلك السياسة التي لن يجنوا منها أي شيء، بل قد تفضي بهم حتما إلى خرابهم وخراب بلادهم في آن واحد، لأن مشكلة الجزائر كامنة في افتقادها لرؤية عقلانية مدروسة، ما يفيد أن هذا البلد هو بلاد الفراغ، أي بلد بدون مشروع، إنه بلد "اللادولة". وهذا ما لا يدركه حكام الجزائر اليوم.
وإذا كان الملاحظون يرون ان للجزائر عائدات فلكية من البترول والغاز، فإنهم كلما ينظرون إلى الواقع الجزائري، بمختلف ميادينه ومجالاته، تفرض عليهم الظروف المتردية لأحوال الجزائر والجزائريين السؤال الآتي: أين ذهب عائدات النفط والغاز؟ للجواب على السؤال سأستند إلى ما يقوله بعض الأكاديميين المعارضين الذين تتسم تحليلاتهم بالرصانة والدقة، كما سأعتمد على بعض التقارير الاستخباراتية الفرنسية المتتبعة عن قرب للشأن العام الجزائري، حيث يجمع هؤلاء كلهم على أن الجنرالات هم الذين يتصرفون في عائدات البترول والغاز. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث صار هؤلاء يستأثرون بمأذونات استيراد مختلف المواد من الخارج، حيث وزعوا الغنيمة بينهم، فأصبح كل واحد منهم محتكرا لاستيراد مادة معينة، تذر عليه الملايير سنويا. هكذا يوجد في الجزائر جنرال مختص في استيراد الحبوب، وآخر محتكر لاستيراد الأدوية، وثالث مختص في استيراد الأسلحة، ورابع محتكر لاستيراد الجعة ومختلف أنواع الخمور... وبذلك، فهم يجنون أموالا طائلة من عمولات رخص الاستيراد التي يحتكرونها. وإذا أضفنا هذه المداخيل إلى ما يجنونه من نهب لعائدات البترول والغاز الجزائريين، فإنه يمكننا فهم أسباب تبخر عائدات البترول والغاز.
لقد ترسخت ثقافة نهب المال العام في أذهان جنرالات الجزائر حتى أصبح مستحيلا عليهم قبول أي رئيس للبلاد يمكن أن يمنعهم من الفساد، وإذا حاول ذلك اغتالوه أو أرغموه على الاستقالة هو وحكومته. وتاريخ الجزائر حافل بالأمثلة على ذلك. وكلما استفحلت الأزمة الاجتماعية، يرفضون أن يفهم الرأي العام أنهم هم الذين تسببوا فيها، لأن الرئيس لا يحكم، وهم الذين يحكمون من خلفه. فهم يرفضون ان ينكشف أمرهم. ودرءا لأي تهمة، فقد أرغم الجنرالات مؤخرا "عبد المجيد تبون" على أن يصرح، قبل عودته إلى ألمانيا لاستكمال العلاج بأن "الحكومة فيها وعليها"، وذلك رغم أنها محسوبة عليه دستوريا، ولو أنه لم يقم بتعيينها. وقد فعلوا الشيء نفسه مع المرحوم "الشاذلي بنجديد" عندما أرغموه على قراءة خطاب كله تهجم على حكومته. هكذا، فإن حكام الجزائر الفعليون يرفضون تحمل مسؤوليتهم عما يقومون به أمام الرأي العام؛ إنهم يدعون العصمة رغم أنهم غارقون في الفساد. وهذا منتهى النفاق... إنه الغباء ذاته، حيث يكررون نفس الحل، لأنهم لا يفكرون، كما أنهم عاجزون عن التجديد والتطور. هكذا نجدهم قد تحولوا إلى مجرد حيوانات تكرر صوتها باستمرار ولا تستطيع تجديدها. والذي يكرر نفس الأساليب والحلول لا يمكن اعتباره إنسانا لأنه لا يفكر.
وخلاصة القول، إن الفقر الفكري لحكام الجزائر هو سبب غياب مشروع لديهم، ما جعلهم يعتقدون أن الحلول نفسها والأساليب ذاتها صالحة على الدوام، وهذا ما خلق غيابا للدولة في الجزائر. وإذا كان فساد حكام الجزائر من الأسباب الرئيسية للأزمة الحالية التي يعيشها هذا البلد، فإنه يجب ألا ننسى أن نفقات "البوليساريو" تشكل سببا فيها كذلك، حيث يتم تسليح هذا التنظيم وإطعامه والإنفاق على تنقلاته وإقامة «قيادييه» في مختلف عواصم العالم، كما يتم شراؤهم عبر تمكينهم من تكوين أرصدة في مختلف المصارف في الخارج، واقتناء عقارات في مختلف عواصم العالم الغربي، وإنشاء مؤسسات تجارية هناك، وذلك دون أن ننسى المبالغة في التسلح لمواجهة الجيران، وما يكلفه ذلك من أموال باهظة.
هكذا، فإن أزمة الجزائر هي أساسا أزمة فكرية نجم عنها افتقار حكام الجزائر إلى أي مشروع وعدم قدرتهم على الأخذ بأسباب التدبير الجيد. ونتيجة حقد جنرالات هذا البلد الدفين على المغرب، فقد افتعلوا ما يسمونه بأزمة "الصحراء الغربية"، حيث أنفقوا أموالا باهظة على "البوليساريو"، واشتروا له أصوات بعض ضعفاء النفوس في مختلف المنتديات الدولية، كما بالغوا في التسلح للاستقواء على جيرانهم. ولكن أحلامهم التوسعية باءت بالفشل، ما بات يفرض عليهم إعادة النظر في أنفسهم وأفكارهم وممارساتهم. لذلك، عليهم أن يهتموا بالشعب الجزائري الذي صار يتحول شيئا فشيئا ضدهم، حيث بات يطالب برحيلهم وإقامة دولة مدنية ديمقراطية...