هذا المثل ينطبق بامتياز على برامج التأهيل الحضري ومخططات التنمية المندمجة التي اعتمدها المغرب منذ عام 2014 إلى اليوم في عدة مدن، إذ تكشف المراقبة بالعين المجردة أن مدينة الرباط استحوذت على الحصة الكبرى من الموارد المالية المخصصة للتأهيل والتزيين والتعبيد مقارنة مع المدن الأخرى المعنية ببرامج التنمية الحضرية المندمجة.
فمدينة الرباط (برنامج عاصمة الأنوار) ابتلعت 9.4 مليار درهم في الوقت الذي نجد فيه أن عدد سكانها لا يتعدى 577827 نسمة، أي أن الدولة رصدت لكل مواطن بالرباط حوالي 16267 درهم ضمن مخطط التأهيل. علما أن الرباط ليست من المدن المنتجة للثروة أو المنبت الذي يضخ الضرائب في خزينة البلاد من قبيل الدار البيضاء أو طنجة أو مراكش.
ولعل استفراد الرباط بالغنيمة المالية، يعود إلى كونها الحاضنة لأصحاب القرار والماسكين بخيوطه في الوزارات والإدارات المركزية وبالمؤسسات العمومية الذين يؤمنون بشعار: «الصدقة في المقربيين أولى» بدل الإيمان بالفقرة الأولى من تصدير الدستور وبالفصل 40 منه. وبالتالي عوض أن يكون صناع القرار الحكومي مسؤولين عن تنمية مختلف ربوع الوطن وفق الحاجة والخصاص والقدرات الجبائية لكل منطقة بما يضمن العدالة المجالية بين كافة مكونات التراب الوطني، بادروا إلى «تسمين» تراب مدينة الرباط على حساب المدن المغربية الأخرى.
صحيح أن الرباط هي «وجه المغرب»، بحكم أنها عاصمة المملكة، ومفروض في العاصمة أن تكون متوفرة على المقومات الدنيا التي تشرف البلاد مقارنة مع عواصم البلدان الأخرى، لكن المتأمل للكيفية التي صرف بها الاعتماد المالي لتنفيذ برنامج «عاصمة الأنوار» سيلاحظ أن معظم الأوراش شملت الأحياء الراقية بالرباط والشوارع الرئيسية المؤدية لها ولم تنتفع الأحياء الشعبية أو المهمشة بنصيبها من التهيئة بما يعيد لساكنة هذه الأحزمة جزءا من الاعتبار ويحقق للمدينة تكافؤ الفرص. بل حتى المدن الفلكية المحيطة بالرباط أقصيت أصلا من رادار التهيئة ولم يشملها أي برنامج (نموذج الصخيرات تمارة) أو تم تخصيصها بالفتات: نموذج سلا التي لم يرصد لها سوى مليار درهم علما أن سكانها يمثلون 982163 نسمة، أي ما يوازي 1018 درهما لكل مواطن سلاوي(أي أن الدولة خصصت للمواطن بالرباط 15 مرة ما خصصته لزميله بسلا، علما أن سلا محرومة من كل المرافق مقارنة مع الرباط!)
دليل آخر على غياب رؤية مجالية منصفة في التهيئة يتجلى في أن الدار البيضاء الحاضنة للوعاء الضريبي المهم للبلاد والمساهم الرئيسي في المجهود المالي بالخزينة والمدينة التي تأوي أكبر الأحياء الصناعية والخدماتية بالمغرب لم تحظ سوى بغلاف 33 مليار درهم لساكنة تبلغ 3.359.818 نسمة، أي أن الحكومة لم تخصص لكل بيضاوي سوى 9821 درهما في برنامج التنمية الحضرية.
وهو يقترب من المبلغ الذي خصصته لكل مواطن بطنجة (7132 درهما)، علما أن مكانة طنجة الاقتصادية والمالية مقارنة مع الرباط لا ينكرها الا ساذج أو بليد، فضلا عن كون طنجة (خاصة حزامها الضاحوي) تعد من المدن المثقلة بالأعطاب والاختلالات الحضرية والمحتاجة لتدخلات مستعجلة لإنصاف سكان عروس البوغاز.
وهذا ما يبين أن المغرب لا يشكو فقط من اللاعدالة المجالية فقط، بل ويعاني من مرض أخطر، ألا وهو غياب العدالة في الحكامة في هرم الحكومة وفي هرم الإدارة المركزية، بالنظر إلى أن أي مسؤول في أي بلد يوظف منصبه السامي للتعامل بالمساواة مع كافة المواطنين وكافة المناطق، وليس باستغلال موقعه لتحويل الرباط إلى "جنة" (بالشوارع الفسيحة والمخضرة وبالإنارة الجيدة وبالأثاث الحضري الرفيع والأنفاق المتعددة وبالأرصفة المبلطة بآخر صيحة من مواد التبليط) بينما يتم إهمال الأحياء الهامشية للرباط وإهمال باقي المدن.
وما يحز في النفس أن هذه البرامج انطلقت تقريبا في توقيت واحد بكل المدن المعنية (ماعدا البيضاء التي كانت لها جدولة متأخرة: 2015-2020) وكلها تشهد تعثرا كبيرا في الانجاز أو خللا في جودة الأشغال، بينما الرباط تجد الوزير والوالي والمدير المركزي وقد تحولوا إلى رؤساء ورش يسهرون ويتتبعون و«يزيرون» المقاولات لإتمام الأشغال في الأوراش أما بالمدن الأخرى (خاصة بالبيضاء) فلا يوجد أي اهتمام من وزير أو والي أو عامل أو مدير، وكأن الدستور "حدو الرباط"!