" أمي لقد وقَّعت العقد!"
كان هذا هو أول اتصال هاتفي لأحمد بعد مراسيم الإمضاء.. طبعا كانت فرحة أمه بالخبر فرحة لا مثيل لها. كانت دائما واثقة من خطواته واختياراته. لم تر منه أية هفوة منذ صغره لحد الآن. قطع كل مراحل الدراسة الثانوية بشكل عادي. حتى مرحلة المراهقة المتقلبة لم تغير شيئا من طباعه.
لقد أصبح أحمد الآن شابا يافعا، بسمته تعكس شخصيته المرحة وتفاؤله في الحياة يجعله متميزا داخل الأسرة عن باقي إخوانه وأخواته. تقلد مناصب عدة، وهو اختيار شخصي، حتى عثر أخيرا على المهنة التي وجد فيها نفسه وارتاح لها.
مهنة مساعد اجتماعي تناسب طباعه مائة بالمائة لأنه يحب تقديم يد المساعدة للجميع.
ما أن انتهت الأم من مكالمتها مع ابنها ووضعت سماعة الهاتف في مكانها، حتى أخذتها من جديد و شرعت في سلسلة اتصالاتها مع أفراد العائلة بالمغرب واحدا واحدا، لأخبارهم بالنبأ السعيد. لكن حديثها مع أختها الوحيدة سعاد، يختلف دائما عن باقي مكالماتها.
إنه حديث خاص تفرغ فيه ما في قلبها من أفراح و هموم وتخوفات. تحكي فيه كل تفاصيل حياتها في المهجر وحياة أبنائها وتستمع بكل بخواطرها لنصائح أختها، بل تعمل على تطبيقها أيضا. علاقتها بأختها سعاد كانت ولازالت علاقة وطيدة تجمع بينهما.
عند عودة أحمد للبيت في المساء، استقبلته أمه بابتسامة عريضة وعناق حار.
"مبروك مرة أخرى..العُقْبَة، إن شاء الله لـ....."
وقاطعها أحمد بسرعة
" أرجوك يا أمي!نفس الموضوع كل مرة!"
وتابع طريقه في اتجاه غرفة الجلوس، حيث يتواجد أبوه وعلامات الغبطة بادية على محياه. تعانقا ثم جلسا جنبا لجنب يتبادلان أطراف الحديث حول الخبر السار طبعا, و حول مستجدات الأخبار فيما يتعلق بكورونا.
" أجل! لقد أخبرت جميع إخواني وأخواتي بالخبر"
هكذا كان رد أحمد على سؤال أمه، ثم أضاف:
" الله يبارك في الواتساب! كل شيء أصبح سهلا وفي رمشة العين".
تنهدت الأم، تنهيدة عميقة وهي تحتسي كأس الشاي الأخضر صحبة زوجها وأبنها أحمد. حملقت بنظراتها البريئة مدة طويلة في وجه ابنها. نظراتها هاته تكن كل الحب والحنان لآخر العنقود. وفي نفس الحين تحمل هما أصبح يتزايد مع مرور الوقت.ساهت بتفكيرها بعيدا وانهمكت في ترديد آخر حديث مع أختها حول الزواج في صمت مريب.
" اغتنمي هذه الفرصة و ادخلي معه في الموضوع"...
جميع أولادها الأربعة و بناتها الثلاث تزوجوا وكونوا أسرهم في مدن متفرقة هنا في المهجر. إلا أحمد!
بينما هذا الأخير كان منهمكا في الحديث مع أبيه, ظلت الأم تبحث عن مخرج من هذه المتاهة التي أضحت شغلها الشاغل. ترددت بعض الوقت، ثم قررت الغور في الموضوع.
" لقد كلمت خالتك وأخبرتها بالخبر السار" هكذا بدأت حديثها مع أحمد.
لقد فرحت غاية الفرح. وأبلغتني بأنها تعرف عروسة جميلة، مثقفة ومن عائلة طيبة. و هاهي صورتها. ويمكنك طبعا التواصل معها عبر الواتساب. خالتك مستعدة لإعداد جميع الترتيبات.
" خصك تكمل دينك أولدي!"
صمت أحمد, ولم يبح بأي لفظة.أحيانا يكون الصمت أفضل بكثير في التعبير عما يخالج القلب.
لم يكن أبوه في الحقيقة يتدخل في هذه المسالة، رغم الالحاحات والضغوطات التي كانت تمارس عليه من طرف زوجته، أم احمد.
" لماذا لا تتكلم؟" هكذا كانت أم أحمد تلتفت إلى زوجها كلما عجزت في حديثها عن إقناع ابنها بالزواج.
" إلى متى سيظل أبنك عازبا؟، قل شيئا، تكلم أنت أيضا".
و فجأة،أُنقذ الأب من المأزق الذي وضع فيه...
" يْكون خير إن شاء الله"
بهذه العبارة، وُفق أحمد في إخماد التوتر الذي يمكن أن يلي هذا الحديث.
على ما يبدو، بدأ أحمد ينصاع للأمر الواقع، بعد المجادلات المتكررة بينه وبين أمه حول هذا الموضوع. الاختفاء حول ذريعة الحصول على عمل قار لم تعد كافية لتأجيل الموضوع.
بدت في الحين علامات الارتياح جلية على محيى الأم. وبسرعة فائقة ضغطت على بعض الأزرار في هاتفها. وأضافت:
" انظر صورتها. إنها في غاية الجمال".
شكرها أحمد ووعدها بالقيام بذلك من بعد.
هل رده هذا كان من باب الحشمة ؟
حملت الأم صينية الشاي وأعادتها ‘لى المطبخ. في الحقيقة، أرادت الأم الاختلاء بنفسها لتبلغ أختها في المغرب بالخبر الجديد، حتى تشرع في عملها هناك. هذا ما اتفقا عليه في حديثهما الأخير.
لم تقتصر الأم على الاتصال بأختها في المغرب فقط، بل أذاعت الخبر أيضا بين كل بناتها اللواتي كن في انتظار هذه اللحظة.
وكثفت الأم من اتصالاتها مع أختها في المغرب. وانتقلت هذه المكالمات للمرحلة ثانية، مرحلة التطبيق رغم بعض التحفظات التي كان يقوم بها أحمد.
" كيف يمكن أن أتزوجها بهذه السرعة وأنا لم أتعرف عليها بعد؟"
كان الرد دائما، سواء من طرف أمه أو خالته:
" توكل على الله. أنها بنت طيبة"
بعدما تحدد موعد السفر إلى المغرب تحدد أيضا موعد حفل الزواج وشرع في إعداد الوثائق الرسمية للسماح للعروسة بالعيش في المهجر. وكلما اقترب موعد السفر، كلما زاد ارتباك أحمد أكثر.
لم يعد أحمد يطيق الحديث حول موضوع الزواج. غابت ابتسامته المعهودة عن وجهه. لم يعد يجالس والديه في قاعة الجلوس بعد تناول العشاء كما جرت العادة كل يوم. أصبح يقضي أغلب أوقاته داخل غرفته. الغرفة التي ستتحول قريبا إلى " غرفة الزوجين"، ريثما يعثر على سكنى مستقلة.
عند وصول أحمد وأسرته إلى المغرب كانت كل الترتيبات جاهزة للحفل. قام أولا صحبة أمه وأبيه، حسب الطقوس المعمول بها، بزيارة لأسرة العروسة. وهو أول لقاء بينهما دام بضع ساعات داخل غرفة غصت بأفراد عائلتها.
وفي نهاية الأسبوع أقيم حفل العرس كما سطرت الخالة لذلك. حفل رائع في قاعة واسعة للحفلات.
فرحت أم أحمد غاية الفرح بهذه الليلة. وبدت علامات الارتياح على وجهها. أما أحمد فظل طيلة الليلة شاردا. ليس أثناء الحفل فحسب, بل حتى أثناء فترة تنقله بالسيارة التي اقتادته صحبة عروسه إلى الفندق الفاخر حيث سيقضى ليلته الأولى.
هل هو شرود عادي كباقي العرسان؟
الأمر المحير أيضا هو عدم حضور أي صديق من أصدقائه لحفل زفافه هذا، رغم إِلحاح والدته المتكرر.
وكما كان متوقعا أقل أحمد وزوجته الطائرة في اليوم الموالي عائدا إلى مقر سكناه في المهجر. بينما ظل باقي أفراد العائلة هناك للاستمتاع بما تبقى من أيام العطلة.
ها هو أحمد الآن وجها لوجه أمام زوجته. هذه الأخيرة التي تكتشف لأول مرة عالم الغربة. ولأول مرة تفارق أهلها في رحلة مجهولة.
رغم كل هذا وذاك كانت البسمة لا تفارقها. طبعا كان حلمها كما هو حلم أغلب البنات بالعيش رفقة فارس الأحلام.
أما أحمد فلازال صمته و انطواؤه لم يتغير بعد. حتى في علاقته مع شريكة حياته. كلما حاولت الاقتراب منه, كلما اختلق ذريعة للانفلات والابتعاد عنها. نفوره هذا ولد شكوكا كبيرة لدى العروسة.
" ترى.. هل أنا لم أعجبه؟"
" هل ندم على زواجه مني؟"
" هل هو يحب امرأة أخرى؟"
أسئلة عديدة راودتها طيلة الأسبوعين الأولين ولكنها لم تجرؤ على الخوض في الموضوع. مع أنها كانت تحس بأنه هو الآخر يكتم سرا ما.
وبعد أسبوعين من العيش لوحدهما، غريبين في غرفة واحدة/ في سرير واحد. انفجر أحمد ذات ليلة و أجهش بالبكاء.
" اعذريني من فضلك. أنا لا استطيع العيش معك. أنا......"
اعتذرت الزوجة، غير مصدقة ماذا يحدُث. ضمته لصدرها و حاولت تهدئه. مسحت دموعه التي لم تنقطع عن الانهمار. أسرعت للمطبخ وناولته كوب ماء. لكن أحمد لم يهدأ بعد.
بكى أحمد، وبكى ووجهه فوق صدرها. من حين لحين تجفف دموعه بالمنديل الذي أحضرته من المطبخ.
" المشكل لا يتعلق بك أنتِ. أنا...." تابع أحمد كلامه و عيناه لا تتوقفان عن الدمعان.
" إني مثلي الجنس. لا أستطيع أن أعيش مع امرأة"
ثم خيم الصمت من جديد.
" أنا كنت مجبرا على الزواج. ولكني لن أستطيع العيش طول عمري متظاهرا لأرضي أسرتي. أنا جد متأسف". وأرخى أحمد أخيرا العنان للتعبير عما يخالجه فعلا. صارحها بأنه لم يقو على مواجهة والديه في هذا الأمر. ووعدها بأنه سيفعل ذلك. رغم ما سيلاقيه من مشاكل عويصة مع أسرته. مشاكل ربما ستكون عواقبها وخيمة.
واعدته أمل بأنها لن تفشي سره لأحد كيفما كان الحال. وستقبل العيش معه رغم ميوله المثالي هذا، إن هو أراد ذلك طبعا.
وبالفعل كانت ردة الفعل من أمه لا تتصور. نزل عليها الخبر كالصاعقة. بكت وولولت بأعلى صوتها. أشبعت وجهها وصدرها ضربا ثم أغمي عليها.
حاولت أمل رشها بالماء, لكنها لم تغير من حالتها. أندهش أحمد وأحس بخطورة الوضع ثم أخذ هاتفه النقال.
" أرجوك أن تحضر بسرعة. لقد أغمي على أمي!"
هكذا أخبر أحمد أخاه سعيد الذي يعمل طبيبا مساعدا في إحدى المصحات. وماهي إلا لحظات حتى غصت الدار بجميع الإخوة والأخوات.
نظر الأخ الأكبر في وجه أخيه أحمد نظرة حقيرة: " لو ماتت أمي،أنت السبب"
وأضاف: " حسابك معي لن ينتهي!".
تعالت شهقات أحمد، التي لم تنقطع منذ بداية حديثه مع أمه. أحس " بالذنب" الذي اقترفه. أحس بالألم الكبير الذي أحدثه اختياره هذا في نفوس كل أسرته. لم يستطع تمالك أعصابه، وجرى صوب المطبخ. أخذ السكين وصاح:
" سأريحكم جميعا من روحي، إذا أردتم"
خيم الصمت من جديد، لكنه لم يدم طويلا هذه المرة.
" لا يا ولدي. أنت ابني و ستبقى ابني كما كانت الأحوال" ثم ارتمى الأب على أحمد وأخذ السكين منه.
وخيم الصمت مرة أخرى.
مصطفى خداري، مدير مدرسة ابتدائية بأمستردام