في لقاء سابق جمعني مع نبيل بنعبد الله، لمّا كان وزيرا للاتصال على هامش ورشة احتضنها فندق رويال منصور بالبيضاء آنذاك، قلت له: "بإمكانك السيد الوزير كمواطن مغربي أن تقتني جريدة «نيس ماتان» الفرنسية بـ 7 دراهم و«نيوزويك» الأمريكية (النسخة العربية) بـ 12 درهما من الكشك الموجود بجوار الفندق بشارع الجيش الملكي بالبيضاء، علما بأن الجريدة الأولى تباع في فرنسا آنذاك بـ 13 درهما، بينما المجلة الثانية تباع باللغة الانجليزية في أمريكا بـ 100 درهم.
أجابني بأنه يتوصل بالجرائد بالوزارة ويجدها فوق مكتبه. فقلت له: "هذا هو السبب الذي يجعل الحكومة لا تعرف تفكيك معادلة الحضور الإعلامي المغربي. إذ أن المواطن الفرنسي يقتني الجريدة في مدينة «نيس» بضعف المبلغ، بينما المطلوب هو أن تباع تلك الجريدة بالمغرب بثمن مضاعف، لأن الثمن الأصلي بفرنسا يتعين أن تضاف له كلفة النقل الجوي والتوزيع المحلي وهامش ربح نقطة البيع بالمغرب، فإذا العكس هو الذي يحصل.
أما في الحالة الأمريكية فالوضع أفظع، لأن النسخة العربية من «نيوزويك» (حينما كانت تصدر وتوزع ورقيا بالمغرب) فهي تباع مترجمة بـ 12 درهما فقط، والحال أن ثمنها الأصلي يجب أن يشمل النقل والتوزيع والترجمة.
ولما سألني الوزير بنعبدالله عن السبب، قلت له إن هذه الدول لها أذرع مؤسساتية تابعة لوزارة الخارجية (وكالات التعاون) تتوفر على ميزانية خاصة لدعم انتشار وحضور صحافة بلدانها في العالم بثمن بخس، وتتولى هذه الأذرع تسديد الفارق (الخسارة) للشركات الناشرة أيا كان توجهها (يميني، يساري، مسيحي...إلخ) فالمهم أن يتم توسيع إشعاع هذه الدولة الغربية أو تلك بالعالم.
فعقب علي الوزير متهكما: "هل تريد من الحكومة المغربية أن توزع صحفكم كناشرين في فرنسا وأمريكا؟"
فأجبته: «لا يا سيادة الوزير، أريد فقط أن تتدخلوا لضمان توزيع الجرائد المغربية في ضاحية البيضاء التي يقطنها حوالي مليون نسمة من طماريس إلى أولاد حميمون، مرورا بدار بوعزة وأولاد عزوز وبوسكورة وتيط مليل وعين حرودة، لأن هذه الضاحية لا تتوفر سوى على 5 نقط بيع للصحف بمعدل نقطة لكل 200 ألف نسمة. فأنتم فشلتم في تقريب الصحف للمغاربة بالعاصمة الاقتصادية فأحرى أن تقربوها بالخارج.. فمغاربة المهجر (حوالي 5 ملايين نسمة) الله وحده العليم بتعطشهم لهذه الجريدة الورقية أو تلك».
استحضرت هذا النقاش مع الوزير نبيل بنعبد الله، وأنا أتابع اليوم حملة التشويه الإعلامي التي يتعرض لها المغرب في أكثر من بلد غربي وما يروج عن بلدنا من خرافات ومعطيات مغلوطة وأنباء مسمومة، دون ان تتمكن اي مؤسسة إعلامية مغربية واحدة (أيا كان اصطفافها: سواء كانت مع الأصوليين أو مع التقدميين أو مع "الدوماليين") من التواجد بهذا البلد الأوربي أو ذاك، لجعله تحت الأضواء الكاشفة وتفكيك منظومته وتأزيم خطاب سياسييه ولوبياته بمثل ما يفعلون مع قضايا المغرب، علما اننا الأكثر مشروعية في الحضور هناك، بحكم وجود 5 ملايين مغربي بالمهجر، أغلبهم بأوربا الغربية التي تحرك ماكينتها الإعلامية "المخدومة" وفق مصالح دولها.
ليس هذا فحسب، بل سمحت لي متابعة أشغال دورات عديدة لمجلس حقوق الإنسان بجنيف، بالوقوف على الغياب التام للإعلام المغربي (حكوميا كان أو خاصا أو حزبيا) في أهم عاصمة أممية بالعالم، حيث تطبخ الملفات ضد المصالح الاستراتيجية للمغرب.
ففي هذه المدينة السويسرية التي تؤوي معظم الوكالات الأممية، نجد أن عدد الصحافيين المعتمدين لديها يصل إلى 300 صحافي، جلهم من الدول الغربية، ولا يوجد ضمنهم أي مغربي يمثل مؤسسة صحفية!.
ولكم حز في نفسي أن أعاين استمرار احتقار المسؤولين المغاربة للحضور الإعلامي في الخارج، خاصة في العواصم والمدن التي يصنع فيها القرار الدبلوماسي والحقوقي والمالي (باريز، جنيف، لندن، نيويورك، شنغهاي،...إلخ).
فباستثناء «لاماب» التي تكون ممثلة عادة بصحافي واحد وأوحد «أعزل»، نجد الفراغ التام وغياب كلي لأي مؤسسة إذاعية أو تلفزية أو صحفية (ورقية أو إلكترونية) نتيجة الكلفة الباهظة لاعتماد صحافي أو أكثر لدى هذه العواصم والمدن الغربية(كراء مكتب كمقر، سكن، أجرة، ضرائب، إلخ...). وهذا ما يفسر لماذا لم يفلح المغرب في أن يكون له موطئ قدم، ليس في توجيه الرأي العام الدولي أو التأثير في مجريات الأمور، ولكن على الأقل حضور الصحافة المغربية بكثرة وطرح الأسئلة في الندوات واللقاءات والحرص على مواكبة وتغطية المنتديات الدولية ومحاورة قادة العالم وصناع الرأي العام يساعد على خلق الإحراج وإسماع الصوت المغربي ولو من زاوية إعلامية.
الدليل على ذلك أن جنيف التي تضم ثلثي العمل الأممي تحتضن كل المنظمات التي لها علاقة بتحسين شروط عيش المواطن (صحة، شغل، ملكية فكرية، حقوق الإنسان، لاجئون، تجارة عالمية...إلخ.) ومع ذلك لم يلتقط البرلمان المغربي ولا الحكومة المغربية الإشارة لوضع استراتيجية تضمن حضورا نوعيا ووازنا للصحافة المغربية (على اختلاف مشاربها وقناعاتها) في هذه المدينة السويسرية التي يصلى فيها المغرب بنار الأوساط الحقوقية ثلاث مرات في السنة كلما انعقدت جلسات لمجلس حقوق الإنسان الأممي (مارس، أبريل، شتنبر).
آه، نسيت أن الحكومة والبرلمان بالمغرب لم يعملا على تسهيل وصول الجرائد المغربية إلى أقاليمنا الجنوبية، فأحرى أن يكونا واعيين بأهمية إيجاد مونطاج مالي ومؤسساتي لتحمل كلفة حضور ممثلي المؤسسات الإعلامية المغربية بالعواصم الغربية المهمة!!