في زمن الحرب على كورونا، والرسائل الملكية «الإنسانية» لتطويق هذا الفيروس عبر إنشاء صندوق «كوفيد 19» لدعم معطوبي حرب كورونا الذين تضررت أنشطتهم الاقتصادية، تسلّل «نواب الأمة» وزعماء الأحزاب إلى الفضاء العام للمطالبة بالزيادة في عدد المقاعد البرلمانية في سياق «التسخينات» لانتخابات 2021. مطلب زيادة 30 مقعدا برلماني إضافي في اللائحة الوطنية وجد له مؤيدون بالحزب الحاكم، وأحزاب الأغلبية التي تقتات على الريع. وليس بعيدا عن المغرب وفي مفارقة غريبة ودرس ديمقراطي بليغ قرر «أحفاد موسيليني» التقليص من مقاعد البرلمان للتخفيف من تداعيات كورونا الاقتصادية والاجتماعية!!
يحدث هذا في دولة كانت مهدا للديكتاتورية، بينما الحزب الأغلبي الذي يسوسنا (من السياسة) باسم «العقيدة» و«الأصولية الدينية» لا يعدم الحيلة ليسوّس جيوب المغاربة، ودخل كـ «السّوسة» في البرلمان للتشريع لاقتصاد الريع. إذا تم تمرير هذا المقترح سيتخطى عدد أعضاء مجلس النواب عتبة 395 ليصبح 425 عضوا برلمانيا، وسيقوم الشعب بتسمين رواتبهم ومعاشاتهم. وما دام يحرس المؤسسة التشريعية «دهاة» و"مبدعون" في «تخراج العينين» لتمرير مشاريع القوانين الداعمة لقطاع الريع بكل مفاصل الدولة، فلا خوف أن تظل قوانين «اللّهطة» حبيسة الرفوف، نكاية في آلام الشعب، وميزانية الدولة التي أنهكتها جائحة كورونا ورجّاتها الاقتصادية التي خلقت جيلا جديدا من المفلسين والفقراء والمعوزين، وعمّقت الفوارق الاجتماعية بين نخب سياسية ريعية تمتص رحيق الحياة من دماء المغاربة، وطبقات اجتماعية تنتج الثروة ولا تستفيد منها.. وما عمق هذه الفوارق أرقام الريع الصادمة التي تغني عن كل التحليلات والبلاغات التي عرت عن منظومة من فساد النخب السياسية التي تراكم مهاما وزارية ووظائف تمثيلية، سواء في غرفتي البرلمان، أو في غيرها من الهيئات المنتخبة، ومعها تراكم عددا من الرواتب والتعويضات المادية التي تخرق كل السقوف المادية المتخيلة بدون أن يردعها نص قانوني استنادا على مبدأ تعارض المصالح أو تنافر الاختصاصات، أو يصدها ضمير يقظ يقول «اللهم إن هذا منكر»، ويستحضر أن الأغلبية الواسعة من أبناء الشعب هي وحدها من يطلب منها أن تؤدي فاتورات كورونا، وأن تغطي عجز الميزانية العامة، وكذلك إفلاس صندوق التقاعد، وكل أنواع فشل السياسات العمومية...
الأرقام تؤشر كذلك على وجود «لهطة» على المال بنزوع غير أخلاقي، حيث يصبح هؤلاء «الملهوطون» أشبه بالمضاربين في السوق السوداء وأثرياء حرب كوفيد 19. بل إن بعضهم قد يضاعف ثرواته بالمتاجرة في المخدرات كما في المتاجرة بالدين الدعوي منه أو الحزبي. ومن ثم يصبح وجوده في المهمة التمثيلية عملية تبييض لأعماله غير القانونية. ورغم خطورة هذا السلوك فهو ليس فقط المظهر الواحد لعملية الإفساد في العباد والبلاد. إذ مظهرها الثاني لا يقل خطورة عن سابقه، ويبرز من خلال الإصرار على مركزة المهام والمناصب التمثيلية في أشخاص محدودين هم وحدهم من ينتفع بامتيازات التمثيلية العمومية، وكذلك بمردودها المالي، وهو ما يعطي صورة مشوهة عن صيغ بناء وتشكل النخب السياسية والحزبية في بلادنا. وإلا ما معنى أن يتحمل شخص ما مهمة تمثيل الأمة داخل قبة البرلمان، وفي نفس الوقت مسؤولية داخل مجالس المدن، أو مسؤولية بجهة ما... علما بأن كل واحدة من هذه الوظائف الانتدابية تقتضي وحدها أن يتفرغ لها ذلك الشخص ليقدم صورة مثلى عن ممثل الشعب، أو عن صورة المسؤول الحزبي الواعي بحدود مسؤوليته وضخامتها ووضعها الاعتباري. وبهذا الخصوص كيف نقنع أنفسنا بجدوى العمل التمثيلي وصفائه ونحن نعاين حالة عضو في مجلس النواب، وآخر في مجلس المستشارين على سبيل المثال يتوليان في نفس الوقت رئاسة جماعة؟ وكيف نتصور نجاعة عمل نائب لرئيس مجلس النواب، وهو في نفس الوقت عمدة لمدينة كبيرة (مثلا في النصف الأول من الولاية الحالية كان عمدة البيضاء نائبا لرئيس مجلس النواب!)؟ في حين يقتضي المنطق الأسلم والأخلاق السياسية أن يتعدد الأشخاص بتعدد المسؤوليات والوظائف. لحظتها سيتفرغ الشخص لمهمته فيصبح الكل راعيا، وكل راع مسؤول عن رعيته. وسيحصل نتيجة ذلك دوران النخب وتجددها من مرحلة سياسية إلى أخرى فتتبدل الوجوه، ويشرع المجال حرا لتنافس الكفاءات، وللإبداع في أداء المسؤولية.
الأخطر من ذلك أن ما يترتب عن هذا التضخم في المسؤوليات وتعددها هو غياب جودة العمل السياسي الحزبي، لأن الفاعلين الحزبيين عاجزون بالطبع عن المواءمة بين أدائهم داخل الحياة الحزبية، حيث يتحملون فيها مسؤوليات قيادية على مستوى المركز أو الفروع، وتحملهم في نفس الآن للمسؤوليات في المجال النيابي أو العمومي بالشكل الذي حددناه أعلاه. والحصيلة ضعف كبير في الأداء على كل المستويات، وإضعاف سافر للمشهد الحزبي والسياسي بشكل عام.
ومن ثم، فإن من أولويات برنامج الإصلاح السياسي والإداري الذي نتطلع إليه، هو العمل على منع تعدد الوظائف أمام كل من يقبل على المهام التمثيلية تحت أي مبرر كان لإيقاف النزيف والتمييع، وليكون ذلك مدخلا حقيقيا لفتح شهية الكفاءات لولوج الحقل السياسي، ولإعادة الرشد إلى الصف الحزبي، وللإسهام في فتح مسالك إنتاج النخب أمام الشباب عوض أن تظل تلك المسالك مجرد «مأذونيات» يستفيد منه زعيم الحزب وأبناؤه وبناته وأصهاره وغيرهم من «ذوي القربى»، وقد يحدث أن تورث تلك «الكريمات» من جيل إلى آخر كما هو جزء كبير من القاعدة في الحياة الحزبية لمغرب اليوم.