ثمة مهن ارتبطت دوما بالصحة والتطبيب، تصنف عادة ضمن خانة "المهن الحرة"، ستظهر بالمغرب، ابتداء من سنة 1910، انطلاقا من مدينة الدار البيضاء، ضمنها الصيدلة وطب الأسنان. ولعل المثير، هنا، هو أن هاتين الخدمتين الطبيتين، ستواجهان شبكة خدماتية مغربية (شعبية وتقليدية) قائمة من زمان، ولها دور حيوي ضمن منظومة "الطب الشعبي" المغربي، هي شبكة "العطارين" وشبكة "الحجامين".
إذ عبر الشبكة الأولى، كان الفرد المغربي يقتني "أدويته الشعبية"، وعبر الثانية كان يتخلص من بعض آلام الرأس (ارتفاع ضغط الدم) والكثير من آلام الأسنان. كانت تلك الخدمة الشعبية، خدمة رحالة متنقلة بين الأسواق، حيث يحمل صاحبها خيمته ويذهب إلى المستهلك ليعرض خدماته عليه، إما بشكل أسبوعي أو بشكل دوري، وكانت تتم في الخلاء المفتوح للأسواق أو المواسم، وليس في بنايات مجهزة وثابتة. (عادت هذه الخدمات اليوم بقوة في العديد من المدن المغربية، لكن بمنطق اقتصادي وتدبيري متوائم مع منطق المدينة، من خلال محلات ما يصنف ضمن خانة "الأدوية الشعبية البديلة" وأيضا ضمن خانة "الرقية الشرعية". فهي ذات البنية القديمة لكن بلبوس جديدة، مما يجعل المرء يستشعر كما لو أننا لم نقطع أي طريق في المعرفة العلمية، أو كما لو أن دورة الأسلوب العتيق عادت لتطوق كل المنجز الطبي المغربي. وهذا ملمح مقلق جدا).
السؤال هنا، متى دخلت مهنة الصيدلة إلى المغرب، أين، وضمن أية ظروف؟ وكيف دخلت مهنة طب الأسنان، أين، وضمن أية سياقات؟ وكل الوثائق المتوفرة، ضمن هذا البحث، تؤكد أن هاتين المهنتين الطبيتين، قد برزتا أول ما برزتا بمدينة طنجة وتطوان، ابتداء من سنة 1902، والدار البيضاء، ابتداء من سنة 1910، أي سنتين قبل فرض الحماية.
هكذا، فاعتبارا لحيوية دورها في مجال الصحة العامة بأي مجتمع، فإن الحاجة إلى توفير الدواء للعلاج، كما تحدده الوصفات الطبية بعد معاينة حالة المريض وتشخيص نوع مرضه، قد جعل من خدمة "الصيدلة" واحدة من الخدمات المركزية ضمن الطب الحديث، التي ظهرت بالمغرب بشكل متواز تماما مع ميلاد خدمة الطب الحديث به. لكنها خدمة تقنية، ذات دور محوري واستراتيجي، ستتم من خلال مستويين من الإنجاز، واحدة عمومية والأخرى خاصة. الأولى إنتاجية، بينما الثانية تسويقية. ويتعلق الأمر هنا بواجب التمييز بين "الصيدلية المركزية" وبين "محلات الصيدلة الخاصة". وتأسيسا على هذا التمييز، سنركز على المجال الذي برزت فيه مؤسساتيا بوضوح، الذي هو مدينة الدار البيضاء.
تأسست الصيدلية المركزية لأول مرة بالمغرب بمدينة الدار البيضاء، سنة 1913، بالمدينة القديمة، في بناية خشبية في البداية، مجاورة للمستشفى العسكري الأول الذي أنشأ بالسور الجديد داخلها. وكانت عبارة عن مصلحة ملحقة بذلك المستشفى، تخزن فيها مختلف أنواع الأدوية والأمصال واللقاحات. ومع توسع خريطة فرض الحماية الفرنسية على جزء من التراب المغربي، وتوسيع شبكة الخدمات الطبية في شقيها العسكري والمدني منذ 1913، أصبح الضغط كبيرا على تلك النواة الأولى للصيدلة المركزية بالمغرب، فتقرر توسيعها، عبر نقلها إلى بناية جديدة أكبر قرب ساحة ضريح سيدي علال القرواني، التي كانت عبارة عن مخزن كبير أكثر منها صيدلية مركزية بالمعنى الطبي المتعارف عليه عالميا حينذاك. ولن تحوز تلك الصفة العلمية فعليا، سوى سنة 1920، بعد إنشاء بناية مستقلة لها، مجهزة تقنيا للعب دور صيدلية مركزية، ضمن المخطط المديري للمهندس بروست المنطلق منذ 1915. وهي البناية الضخمة بالحي الأوروبي الجديد، قرب شارع المحطة (شارع محمد الخامس اليوم)، غير بعيد عن السوق المركزي، في اتجاه المركز التجاري (درب عمر اليوم)، في زقاق اسمه زنقة أولاد زيان، والتي لا تزال قائمة كبناية ضخمة هائلة، بمدخل ملكي عال، إلى اليوم وتلعب ذات الدور المحوري لـ "الصيدلية المركزية". ولهذا السبب بقي قطاع الصيدلة في شقه الطبي العمومي، مرتبطا دوما بمدينة الدار البيضاء.
كانت تلك الصيدلية، تضم في بداياتها قسمين كبيرين، كما تؤكد ذلك وثيقة للطبيب الصيدلي الفرنسي روبير كوت (كان مديرا لهذه المؤسسة الحيوية في العشرينات من القرن الماضي)، واحد للتخزين والآخر للإنتاج. وكلاهما مستقل عن بعضه البعض بسبب إلزامية الحماية الطبية والتقنية لوسائل إنتاج الأدوية، وإبعادها عن مجال التخزين والتوزيع. حيث إنها انطلقت بعدد قليل من الخبراء الصيادلة من الفرنسيين، الذين دشنوا عمليا أول الصناعة الصيدلية بالمغرب منذ 1918، لم يكن يتجاوز عددهم 11 صيدليا من مستوى ممرضين مركزيين متخصصين (سينتقل ذلك العدد في سنة 1925، مثلا، إلى 21 تقنيا صيدليا أوروبيا، وأيضا 16 موظفا مغربيا، من المساعدين التقنيين الذين شرع في تكوينهم وشكلوا النواة الأولى للتقنيين الصيدليين بالمغرب).
كانت الغاية، عند الإقامة العامة الفرنسية، ومن خلال البنية الإدارية لقطاع "الصحة العمومية بالمغرب"، هي خلق استقلالية في إنتاج الأدوية الأساسية محليا، لغايات عسكرية يفرضها استعجال التوفر على الدواء الكافي بسرعة وفي زمن قياسي ملائم. لهذا السبب، سيتم اتخاذ القرار بمركزة صناعة الدواء بالمغرب، من خلال خلق وتجهيز "الصيدلية المركزية"، وأيضا تخزينه وتدبير شكل توزيعه، عبرها، على كامل التراب المغربي. مما جعل تلك المؤسسة تضم قسمين كبيرين منذ البداية، هما قسم الإنتاج العلمي والطبي والصيدلي، وقسم التوزيع، وكلاهما تابع لإدارة مركزية واحدة، كانت تتوفر على قسم حسابات وعلى قسم مراقبة وعلى قسم أبحاث علمية. وبسبب توالي الطلبات على الأدوية، ستكون تلك المؤسسة هي الوحيدة المخولة بقوة القانون لاستيراد الدواء من الصيدليات المركزية ومن معامل إنتاج الأدوية بفرنسا، وكان لها مجال خاص بها ضمن أرصفة ميناء الدار البيضاء، ولها وسائلها الخاصة الأمنية. مثلما أنها أول منتج محلي للأدوية بالمغرب منذ 1918، مكنها من إنتاج أنواع من المراهم الطبية، متعددة التركيبات الكيميائية، بين مراهم الجروح ومراهم الحروق ومراهم العيون، وكذا إنتاج دواء الملاريا "الكينين" (ونحن نسمع كثيرا هذه الأيام بسبب جائحة كورونا حديثا عن دواء "الكلوروكين" المشتق من أصل "الكينين" المكتشف من نوع من الأشجار بأمريكا اللاتينية له خاصيات شفائية). وكذا إنتاج أدوية متعلقة بمرض الزهري (خاصة على مستوى التعقيم) وأدوية للجهاز التنفسي وأخرى للجهاز الهضمي. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن عبارة "الكينة" الشائعة شعبيا عندنا بالمغرب، يرجع أصلها إلى دواء "الكينين" المنتج بالمغرب منذ 1920، بتلك الصيدلية المركزية بالدار البيضاء. والتي بلغ حجم إنتاجها بالأرقام، من 2300 كلغرام سنة 1925 إلى أكثر من 10 آلاف كلغرام سنة 1935، فيما انتقل عدد زجاجات التخدير الطبي المصنعة بها من 370 ألف زجاجة سنة 1925، إلى مليون و200 ألف زجاجة تخدير سنة 1935 (أغلبها كان يستعمل ضمن الطب العسكري الفرنسي حينها). فيما انتقل حجم إنتاج المراهم من 7 آلاف كلغرام سنة 1925 إلى 17 ألف كلغرام سنة 1935.
بينما نجد أن قطاع الصيادلة (كمهن حرة) قد ولد بالدار البيضاء منذ 1910، بالمدينة القديمة من خلال فتح أول صيدلية عصرية بها، هي "صيدلية الثعبان" لصاحبها الصيدلي الفرنسي السيد فينيش، الذي فتح الباب لعدد آخر من الصيادلة، لم يتجاوزوا في البداية اثنين هما السيد لافون والسيد لابريستي. قبل أن تظهر صيدليات أخرى بالمدينة الأوروبية المركزية خارج أسوار المدينة القديمة، وبعدها ابتداء من سنة 1925 بالمدينة المغربية الجديدة (درب السلطان)، والتي بلغ عددها سنة 1935، في كامل تراب أحياء الدار البيضاء، 32 صيدلية، ضمنها صيدلية الصليب الأحمر وصيدلية باريس وصيدلية سيمون وصيدلية كونتي وصيدلية لافاييت وصيدلية البورصة وصيدلية باتينو وصيدلية مينوي وصيدلية الحرية وغيرها. ولقد انتظم أولئك الصيادلة منذ 1915 ضمن جمعية مهنية لهم شكلت في ما بعد جزء مركزيا من نقابة الصيادلة بالمغرب، وأصدرت إطارا تنظيميا للعمل يقضي بفتح دوري لبعضها يوم الأحد وفتح أخريات بشكل دوري ليلا. مع تسجيل أن الإقامة العامة الفرنسية ستشترط ابتداء من سنة 1917 ضرورة توفر صاحب الصيدلية على دبلوم طبي صيدلي من إحدى كليات الطب بفرنسا، بسبب أن بعضا من الصيادلة فتحوا محلاتهم بالمغرب بدون التوفر على معرفة طبية بمجال الصيدلة.
ثاني المهن الطبية الحرة، الجديدة بالمغرب منذ 1911، هي قطاع أطباء الأسنان، الذين غامر عدد منهم إلى فتح محلات طبية (وليس عيادات طبية كما هو واجب من شروط العيادة الطبية المحترفة) بالمدينة القديمة، هم: كاتسولي، لوبلان، شالي، لالوند، جلابير. الذين اشتغلوا في بداياتهم في أكواخ خشبية، بدون كهرباء ولا ماء، وبأقل الإمكانيات الطبية الواجبة على مستوى النظافة، ما جعلهم في بداياتهم تلك أقرب للعطارين المغاربة، مع فارق بسيط أنهم (كما كتب أحدهم هو الدكتور جلابير) يضعون وزرة بيضاء. لكن مع صدور الظهير المنظم لمهنتهم ابتداء من سنة 1917، الذي أصبح يلزمهم بتقديم شهادة التخرج من إحدى كليات الطب بفرنسا في مجال تخصصهم، تطورت مهنة طب الأسنان بسرعة كبيرة بالمغرب، وأصبحت واحدة من الخدمات الطبية التي غيرت من رؤية الفرد المغربي للطب الحديث وللأجانب الذين أصبحوا جزء من فضائه العام (ولو بالإكراه)، بفضل قيمة ما أصبح يقدم لهم من خدمة صحية، تتجاوز بكثير ما كانت توفره الخدمات الطبية التقليدية. وما أطلت سنة 1925، حتى أصبح بالدار البيضاء وحدها 14 عيادة طبية للأسنان تتوفر على أحدث الآليات التقنية لممارسة ذلك التخصص الطبي الدقيق، يشرف عليها أطباء أجانب ذكورا وإناثا (لعل أكثرهن شهرة حينها الدكتورة راشيل باسان لحرفيتها وجمالها أيضا).