وأكد المشاركون في هذه الندوة التي نظمت في التاسع من يونيو الجاري على أن الدعوة إلى ترشيد الحقل اللغوي الذي يعد مطلبا لتحقيق التنمية والتقدم، تنطلق من كون اللغة تشكل هوية كل مجتمع، ولأنها تعبّر عن ثقافته وفكره وتاريخه وآماله، وكل تشويش في استعمالها مجتمعيا، يخلق فوضى لغوية وثقافية تؤثر سلبا على الحاضر والمستقبل. بيد أنه على الرغم من أن الخطابات الداعية إلى حسن استعمال اللغة وتدبيرها بشكل يتماشى مع ما ورد بشأنها في الدستور، فإن الملاحظ أن وسائل التواصل المختلفة بما فيها الإعلام والخطابات الرسمية وشبه الرسمية وغيرها، " لم تول اهتماما واضحا للغة التواصل، متسببة هكذا في فوضى لغوية عارمة في هذا المجال الهام والمؤثر"كما رصدت الورقة التأطيرية للندوة التي تولى إدارة تسيرها عبد الكريم جدي الأستاذ الباحث في الأدب.
وسائل الاعلام لم تول اهتماما واضحا للغة التواصل
وإذا كان المسؤولون عن الشأن اللغوي والمخططون له، قد أدركوا خلال جائحة كوفيد 19، خطورة هذا الظرف العصيب، فانهم علىما يبدو تفهموا " الحاجة إلى لغة تواصل متزنة ، والتقطوا الإشارات الداعية إلى ضرورة ترشيد هذا الحقل"، حسب ما طرحه المشاركون في الندوة الذين سجلوا في هذا الصدد كذلك أن وسائل الإعلام " بدأت تشهد توزيعا معقولا في نشراتها الإخبارية والتوعوية والتحذيرية...، تؤدي فيه اللغتان الرسميتان دورهما الإعلامي والتوجيهي، بالإضافة إلى استعمال العامية المغربية في مجالات متممة أخرى".
في نفس الاطار اعتبر متدخلون في ندوة الائتلاف الوطني لترشيد الحقل اللغوي الذي تأسس كجمعية ثقافية، في 11 يناير 2011، ويعنى بالشأن اللغوي بالمغرب في مختلف مجالاته وتمظهراته، أن "هذا الباب من الترشيد حقق نجاحا لا يخطئه العقل على مستوى استيعاب الخطاب، وأكثر منه على مستوى التجاوب مع الخطاب باحترام الحجر الصحي والإجراءات الاحترازية والوقائية التي أقرتها السلطات المختصة".
الحاجة إلى لغة تواصل متزنة وللخروج من حالة الفوضى
وبعدما أشاروا الى أن ما يعرفه الحقل اللغوي المغربي اليوم " أكثر من فوضى"، وهو الامر الذي وصفه الأستاذ جواد العراقي رئيس الائتلاف الوطني للترشيد اللغويلدى افتتاح الندوة،ب"المفارقة الغريبة في بلد المفارقات. المغرب - بلد الأمازيغية بتلويناتها المختلفة والعربية والحسانية والدوارج واللغات الأجنبية- هو على أرض الواقع اليوم بلد صفر لغة! "فضلا عن أن "بعض المغاربة، حتى ممن ينعتون بالنخب، لا يتقن أي من اللغات الرسمية للبلاد ولا حتى العامية! لغتان رسميتان ولغة أجنبية مهيمنة على مرأى ومسمع من الجميع في مؤسسات رسمية وفي الاقتصاد وفي التعليم وفي الإعلام وفي الإدارة وفي القطاع الخاص وفي مجالات حساسة داخل المجتمع وفي أعمال ثقافية وفنية..خليط لغوي مستفز في كل المجالات؛ لغات مكتوبة بأحرف لغات أخرى، بل حتى بأرقام تكميلية! فبأي تنمية يمكن أن نحلم في ظل تسيب لغوي هذه بعض مميزاته؟حسب ماسجله بكثير من الحسرة الأستاذ جواد العراقي رئيس الائتلاف الوطني للترشيد اللغوي.
التنوع اللغوي سيف ذو حدين: رافد لمشروع تنموي أو تكريس للتبعية وللهشاشة
غير أن الأستاذ العراقي أوضح ، أنالتعدد والتنوع اللغوي سيف ذو حدين. فإما نوظفه على الوجه الأمثل ويكون رافدا حقيقيا لمشروع تنموي شامل يحقق العيش المشترك الهادئ داخل المجتمع، وإما نستسلم للفوضى الثقافية واللغوية فنكرسها ونحكم هكذا على البلاد بالانغماس في التبعية والهشاشة والتخلف. وهو نفس المنحى الذي ذهب إليه الأستاذ عبد الكريم جدي، الذي لفت الانتباه الى إنّ موضوع الندوة "ليس هو مناقشة اللغة في حد ذاتها؛ بل في ترشيد حقولها واستعمالاتها المتعددة في مختلف القطاعات والمؤسسات الحيوية للمجتمع".
وفي ذات السياق، يرى عبد الكريم جدي أن الرهان على ترشيد الحقل اللغوي، يعد"سبيلا نحو تنظيم وعقلنة الفوضى اللغوية التي يعرفها الاستعمال والتداول اللغوي بالمغرب؛ والتي تطال كل المرافق والمؤسسات الحيوية في المجتمع من إعلام وإشهار وبرامج إذاعية، وبعض الأغاني المغربية والمسلسلات والتلفزيونية المستجدة، وكتابات ورسائل نصية في مواقع التواصل الاجتماعي".
ومن جانبهما أشاد كلا من الأستاذ الباحث حسن الصميلي والصحفي جمال المحافظ الباحث في الاعلام والاتصال الذينساهما بمداخلتين في سياق تأطير محوري الندوة، بحسن اختيار " الترشيد اللغوي عماد التواصل: أزمة كوفيد19 نموذجا"موضوعا لهذه الندوة العلمية من لدن الائتلاف الذي يهـــدف بالخصوص الى المساهمة في الحد من الفوضى اللغوية وفي بلورة مشروع وطني متكامل لترشيد الحقل اللغوي.وتطرقا بإسهاب لمفاهيم السياسة اللغوية وآليات الترشيد والترشيد اللغوي في الخطاب الإعلامي، وقاربا موضوع الندوة من زوايا متعددة ومتقاطعة وذلك ارتباطا بهذه الظرفية الصعبة والحاسمة في تاريخ البشرية جمعاء، نتيجة تداعيات كورونا على الحقل اللغوي الوطني.
اللغة الأم في زمن الأزمات تكون دوما " ملاذ المجتمع"
وهكذا اعتبر الأستاذ حسن الصميلي، أن التواصل باللغة الأم في زمن الأزمات تكون دوما " ملاذ للمجتمع" برمته، وأن الدول تحتاج الي توعية الأفراد والجماعات بواسطة لغاتها الوطنية مشددا على ضرورة الالتزام الدستور الذي تنص مقتضياتهعلى اللغتين الوطنيتين مع العمل على توطين منظمومتنا اللغوية وتثمينها واعتماد استراتيجيات لغوية واضحة المعالم وتوظيفيها في كافة الفضاءات، مع الارتقاء بمستوى الاعلام وترشيد لغته وتسخيره لخدمة المجتمع.
ودعا الأستاذ الصميلي عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالداربيضاءسابقا الى إقرار "عدالة لغوية" والرفع من مستوى الوعي العام والارتقاء بمستوى تعليم كبار السن، وجعل اعداد النموذج التنموي الجديد، مناسبة لتعاقد جديد وعملي في مجال الترشيد اللغوي.
أما جمال المحافظ الصحفي والباحث في الاعلام والاتصال،فاعتبر أن الفعل التواصلي الذي يساهم في بناء العالم الاجتماعي المعيش، من شأنه أن يمكننا من إحداث قطيعة مع الأطروحات التقليدية المرتبطة بالوعي والفعل والممارسة اللغوية، خاصة وأن العلاقات التواصلية، لا يمكن بأي حال من الأحوال ردها واختزالها في مجرد تبادل للمعلومات أو المعطيات بواسطة اللغة، كما سبق أن أوضح المفكر الألماني يورغن هابرماس آخر عملاقة المدرسة النقدية.
كوفيد 19، فرض تعاملا خاصا مع الشأن اللغوي، وخطابا إعلاميا لغويا جادا ومتزنا
ودعا جمال المحافظ مدير الاعلام السابق بوكالة المغرب العربي للأنباء، كذلك الى " يقظة إعلامية وتواصلية"، وتطوير البحث العلمي في التدبير الإعلامي والتواصلي،واعتماد التخصص في الاعلام والاتصال خلال الأزمات. وأضاف إن كوفيد 19، فرض تعاملا خاصا مع الشأن اللغوي، وخطابا مهنيا لغويا جادا ومتزنا،خاصة ما يتعلق منها بتقديم الإجراءات والتدابير الاحتراوية المتخذة لمواجهة الوباء القاتل منها الحجر الصحي وحالة الطوارئ الصحية،وهو ما أعاد الدفئ الى علاقات المواطنات والمواطنين ووسائل اعلامهم والذي على ما يبدو استعاد ومام المبادرة ، وارتقى بأدائه وخطابه خلال هذه الجائحة.
وفي أعقاب هاتين المداخلتين ، جرى نقاش هام، تناول فيه المشاركون منهم الأستاذة أمينة اليملاحي، ولحفيظ الزعلي، والطلبة الباحثين، سمية بوهلال وأنس ملموس، عددا من القضايا المرتبطة بالترشيد اللغوي كتعامل وسائط الاتصال التقليدية والجديدة مع الشأن اللغوي وترشيده ، ومدى حضور اللغتين الرسميتين مع العامية المغربية في توجيه الرأي العام.
بدون ترشيد اللغة لا يكون تواصل والتقدم العلمي يتحققباللغة الأم
وفي هذا الصدد قالت الأستاذة الباحثة أمينة اليملاحى أبالخصوص ن قضية اللغة التي تعد مفتاح العلوم، مسألة أساسية، فعلى الرغم من أن بدونها لا يكون تواصل، هي مرتبطة بمجالات تنموية حيوية متساءلة هل حققت السياسة اللغوية الترشيد اللغوي المطلوب؟ .
ومن جهته اعتبر لحفيظ الزعلي الأستاذ الباحث في اللسانيات أن المغرب وإن كان قد نجح كذلك، من الخروج بأقل الخسائر من حيث الإصابات والوفيات، فإن المسؤولين عن الشأن اللغوي، فيما يبدو قد فهموا الدور المنوط بهم فتصرفوا بدرجة محترمة من الرشد اللغوي لتحقيق الأهداف المتوخاة من التواصل مع المجتمع المغربي، المعني قاطبة بالجائحة وبتداعياتها وإسقاطاتها.
كورونا مدخلا لحل مشاكل الفوضى اللغوية والارتقاء بالبحث العلمي في التواصل
وإذا كان تاريخ الانسانية يسجل أن كافة الحضارات حققت تقدمها وانتصاراتها الفكرية والعلمية والتنموية بلغتها الأم ، فإن المشاركين في الندوة عبروا في هذا الصدد عن الأمل في أن تكون نتائج جائحة كورونا، " مدخلا مستعجلا لحل مشاكل عديدة، سببها الأساس الفوضى اللغوية في التعليم والإدارة والإعلام والاقتصاد والفن والمجتمع عموما" مشددين على ضرورة " الاهتمامبما هو لغوي وثقافي وما هو هوياتي وعلمي واستثماره من أجل تدبير المستقبل بحكمة وعقلانية".
وكان الأستاذ موراد موهوب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، قد ألقى في بداية الندوة كلمة نيابة عن الأستاذة عواطف حيار رئيسة جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء المرتبطة بشراكةهذا الائتلاف اللغوي" استعرض فيها الأهمية التي توليها هذه الجامعة لمجال البحث العلمي خاصة ما يهم الاعلام والاتصال والرقمنة ولسانيات الحوسبة مشيرا الى الجامعة تركز على البعد التطبيقي لترشيد الحقل اللغوي، والبعد التقارني في التواصل الذي يشمل جميع الأنساق.