الصديقي : وضعية التشغيل خلال سنة 2019...إعادة موسعة لإنتاج الهشاشة

الصديقي : وضعية التشغيل خلال سنة 2019...إعادة موسعة لإنتاج الهشاشة عبد السلام الصديقي
أقدمت المندوبية السامية للتخطيط مؤخرا على نشر النتائج الأولية للبحث السنوي حول التشغيل لسنة 2019، ولأن هذه المعطيات قُدمت في شكلٍ خام، فإنها تتطلب المزيد من التحليل والتفسير حتى لا يتم استقبالها بصفة خاطئة، خصوصا بالنسبة للعموم وللقارئ الذي لم يتعود على التعامل مع الجهاز المفاهيمي والاصطلاحي المُستعمل.
طبعا، سيعود خبراء المندوبية، كما دأبوا على ذلك، إلى هذه النتائج الأولية من أجل شرح مدلولها وتوضيح جديتها، علما أنه في جميع الحالات لا يمكن للإحصائيات، مهما بلغت درجة صِــدقيتها، أن تترجم الواقع كما هو بتعقيداته وتناقضاته.
فماذا تقول الإحصائيات لسنة 2019؟
يظهر أن الاقتصاد المغربي قد أنشأ 165000 منصب شغل، نتيجة إحداث 250000 بالوسط الحضري وفقدان 85000 بالوسط القروي، مقابل إحداث 111000 خلال السنة الماضية (2018).
ومن جهة أخرى، يتضح أن قطاع الخدمات أحدث 267000 منصب شغل، وقطاع البناء والأشغال العمومية 24000 منصب شغل، وقطاع الصناعة بما فيها الصناعة التقليدية 17000 منصب شغل، فيما عرف قطاع "الفلاحة والغابة والصيد" فقدان 146000 منصب.
إن هذه الأرقام تدعونا إلى تقديم بعض الملاحظات: فهناك تناقض بين ما جاء في الفقرة الأولى حيث تمت الإشارة إلى خلق 165000 منصبا صافيا، وما نستخلصه من الفقرة الثانية التي تعطينا فقط 162000 منصب شغل صافي، وهذا الفارق الذي يقدر ب 3000 منصب يشكل لغزا حقيقيا، وهو ما يعتبر مشكلا بالنسبة لعلم الإحصائيات الذي يقوم على الدقة العلمية.
ولنضع جانبا هذا "الخطأ الإنساني" لنطرح سؤالا آخر نعتبره جوهريا:فبأي معجزة يا ترى أصبح الاقتصاد المغربي اقتصادا غنيا من حيث خلق مناصب الشغل؟! فبينما بلغ معدل خلق فرص الشغل أقصاه في الماضي 30000 منصب عن كل نقطة نمو، تراجع هذا المعدل خلال السنوات الأخيرة إلى ما لا يتجاوز 15000 عن كل نقطة نمو، لننتقل (عن طريق المعجزة) إلى أزيد من 50000 عن كل نقطة نمو.فلنعترف إذن أن هذا الإنجاز لا يتقبله المنطق ولا يستسيغه العقل، وإن كان من الممكن إيجاد نوع من التفسير من خلال دراسة نوعية المناصب المُحدثة.
هكذا، وحسب المعطيات السالفة الذكر، يُعتبر قطاع "الخدمات" هو القطاع الذي ينشئ أهم المناصب بحوالي 267000 منصب سنة 2019، ويُـعتبر هذا القطاع "خليطا" من الأنشطة،إذ نُدرج ضمنه كل ما يمكن للمرء أن يتصوره باستثناء ما يدخل ضمن القطاعين الأولي والثانوي، وهكذا نجد جنبا إلى جنب أعدادا كبيرة لمناصب غير منتجة، وأنشطة معاشية بما فيها التسول الذي توسعت دائرة ممارسته خلال الفترة الأخيرة، فهذه المناصب لا ترتبط بالنمو ولا تخلق بالتالي أي قيمة مضافة، ولا تقوم إلا على إعادة إنتاج البؤس والهشاشة، كما تنبغي الإشارة إلى أن السكان النشيطين العاملين في هذا القطاع يبلغ عددهم تقريبا النصف، وتعتبر هذه الظاهرة من بين التمظهرات الأساسية للتخلف كما عالجه علماء الاقتصاد والاجتماع.
أما القطاع الثانوي (الصناعة والصناعة التقليدية)، والذي يُــشَــغل فقط 12% من الساكنة النشيطة، فلم يوفر إلا 17000 منصبا خلال سنة 2019، وكنا نتمنى أن يقوم خبراء المندوبية بفرز وتمييز هذين القطاعين عن بعضهما(الصناعة والصناعة التقليدية) لمعرفة نصيب كل منهما في خلق فرص الشغل بشكل دقيق، ومن ثمة كان سيكون بالإمكان أن نسلط المزيد من الضوء على وقع برنامج التسريع الصناعي على التشغيل، وهو الذي حُدد له، كهدف طموح، خلق 500000 منصب شغل.
كما أن القطاع الأولي(الفلاحة والغابة والصيد) قد فَــقَــدَ خلال سنة 2019، 146000 منصبا، من بينها 85000 في العالم القروي، وإذا كان هذا الفقدان، وخاصة في الفلاحة، يمكن تفسيره جزئيا، بالعوامل المناخية، فإنه مع ذلك يتطلب قراءة مزدوجة:فهناك قراءة إيجابية مفادها أن هذا الفقدان يعود إلى التكثيف الفلاحي وتحسين الإنتاجية التي تهم أساسا المناطق المسقية والمواد الموجهة نحو التصدير، وهناك أيضا قراءة سلبية تقوم على كون مخطط المغرب الأخضر لم يُــولِ العناية اللازمة للفلاحة التضامنية التي تهم العدد الأكبر من الفلاحين والموجهة أساسا نحو السوق المحلي.
بعد هذه التوضيحات والقراءات، ننتقل الآن إلى مسألة أخرى تتعلق بعدد العاطلين ومعدل البطالة، حيث سجل عدد العاطلين انخفاضا، سواء بالأرقام المطلقة أو بالأرقام النسبية، فَــبَــلَغَ1.107000 (تمثل فيه النساء 35%) سنة 2019 مقابل1.137 000 سنة 2018، مع معدل للبطالة بالتوالي %9,2 و%9,5.
هذا الانخفاض، الذي يبلغ 0,3 نقطة لا يعود فقط إلى خلق فرص الشغل كما هو مبين أعلاه، ولكن أيضا إلى تراجع معدل النشاط بالنسبة للساكنة التي توجد في سن العمل، وخاصة في وسط الإناث، حيث انخفض معدل النشاط من %46 إلى %45,8 وهو ما يمثل 25000 شخص انسحبوا من "دائرة النشاط" بعدما عانوا الأمرين في البحث عن فرصة شغل دون نتيجة تُذكر، ولولا هذا الانسحاب لكان بلغ عدد العاطلين 1.131.200واستقر بالتالي معدل البطالة في نفس المستوى الذي كان عليه سنة 2018.
ينضاف إلى معدل البطالة هذا، والذي يتغير بحسب الجنس، ووسط الإقامة، والسن، ومستوى التكوين، ما يُــسمى بالتشغيل القاصر الذي يهم عددا يساوي تقريبا عدد العاطلين بصفة كلية، وهنا أيضا نلاحظ نقصا منهجيا من الأهمية بمكان، ذلك أن البطالة الموسمية هي الوحيدة التي تم أخذها بعين الاعتبار في احتساب التشغيل القاصر، وتم التغافل على مكون آخر ومهم ألا وهو "البطالة المقنعة"، وعليه يمكن الجزم بأن التشغيل القاصر يتجاوز بكثير الأرقام التي قدمتها المندوبية السامية للتخطيط وهي 514000 في الوسط الحضري و487000 في الوسط القروي.
كخلاصة، ومع تقديرنا لأطر المندوبية الذي يشتغلون بكل تفانٍ ونكرانِ ذات، ودون كلل، وبجدية قل نظيرها، نعتقد في رأينا المتواضع أن هناك حاجة ماسة إلى مراجعة الأدوات والمنهجية المتبعة في إنتاج الاحصائيات المرتبطة بمسألة التشغيل، وجعل هذه الإحصائيات أقرب ما يمكن من معطيات الواقع المُعقد والمُركب.
وليتواصل الحوار....
 
د.عبدالسلام الصديقي، أستاذ جامعي، ووزير التشغيل والشؤون الاجتماعية الأسبق