لو كنّا في بلد يحترم نفسه لتم اقتياد كل المسؤولين على هذه الجريمة البشعة إلى المقصلة.
أما إن كنا في عهد الخليفة المنصور العباسي لتم دفن المسؤولين عن هذه الجريمة وسط الخرسانة المسلحة داخل أعمدة البنايات والعمارات.
هذا المطلب ليس تعطشا مجانيا للدم أو تدينا بعقيدة متوحشة وبربرية، بل هو مطلب مسنود بالأرقام الصادمة والمفجعة التي كشفها محمد جاي منصور، مدير أكاديمية التربية الوطنية بجهة سوس يوم 27 شتنبر 2019.
فعقب فاجعة ملعب تيزرت، التي أودت بحياة ثمانية مغاربة إثر الفيضان الذي ضرب إقليم تارودانت في غشت 2019، وقعت «صحوة عمومية» لدى المسؤولين الذين انتبهوا إلى أن العديد من المرافق العمومية (ملاعب، أسواق، مراكز صحية...) مبنية فوق سرير الأودية مما يشكل تهديدا حقيقيا لأرواح المغاربة.
في هذا الإطار كشف المسؤول الجهوي لوزارة التربية محمد جاي، أن جهة سوس لوحدها تضم 238 مدرسة مبنية فوق سرير الأودية وتقرر إغلاقها مع إعادة انتشار التلاميذ وتوجيههم إلى مدارس أخرى تكون أقرب إلى الدواوير أو القرى التي يقطنون بها تجنبا لوقوع فاجعة أخرى.
وهذا هو بيت القصيد!!
إذ أن أبجديات التعمير في العالم كله توصي بعدم بناء المؤسسات العمومية فوق سرير الوادي أو بمحاذاة فوهة بركان أو على خط زلزالي، كي لا يتم تعريض حياة المواطنين للخطر من جهة، وحتى لا يتم إهدار المال العام من جهة ثانية.
لكن بما أننا في المغرب، بلد اللاقانون ودولة اللامحاسبة، فإن الحكومة (الساهرة على تطبيق القانون يا حسرتاه!) نجدها هي التي باركت تمويل بناء 238 مدرسة فوق الأودية!! علما أن هناك وكالات للحوض المائي ووكالات حضرية مهمتها الرئيسية هي الحرص على حرمة الملك العام المائي بالأنهار والأودية، ومنع أي كان (ولو كانت وزارة التعليم أو الأوقاف أو الشباب أو الداخلية أو التعاون الوطني..) من بناء منشأة عمومية يرتادها الجمهور.
فحسب المعطيات المتوفرة لـ "الوطن الآن" و"أنفاس بريس" نجد أن كلفة بناء حجرة دراسية واحدة بالعالم القروي تتراوح بين 120 و140 ألف درهم. وإذا علمنا أن معدل الحجرات الدراسية بالمدرسة بالعالم القروي هو ثماني حجرات (هناك مدارس فيها 12 حجرة وأخرى تضم 16)، فمعناه أن مدرسة واحدة تكلف المغاربة 960.000 درهما.
وبالتالي، إذا اعتمدنا أرقام الفضيحة التي أعلنها محمد جاي، المتمثلة في إغلاق 238 مدرسة، فمعنى ذلك أن الكلفة التقريبية التي أهدرت في بناء هذه المؤسسات فوق الأودية بلغت 228.480.000 درهم (حوالي 23 مليار سنتيم)!
ليس هذا فحسب، بل إن المغرب «حصن» نفسه بإحداث 10 وكالات للحوض المائي بكافة التراب الوطني (أول وكالة هي بني ملال وآخرها هي وكالة حوض كلميم واد نون) كما «حصن» نفسه بـ 30 وكالة حضرية (منها واحدة تابعة لوزارة الداخلية وهي وكالة كازا).
إذن لماذا خلق المغرب هذا المونطاج المؤسساتي، إن لم تقم وكالات الحوض المائي والوكالات الحضرية بدورها في ضمان احترام ضوابط التعمير، خاصة في الشق المتعلق بالأساس بالبناء في شروط آمنة وسليمة؟!
فكل وكالة حوض مائي تضم على الأقل 60 موظفا (بعض الوكالات الكبرى مثل بني ملال وفاس تضم أزيد من 100 موظف)، أي جيشا من 800 موظف في المعدل، وتلتهم هذه الوكالات العشر مجتمعة حوالي 60 مليار سنتيم كل عام من ضرائب المواطنين.
أضف إلى ذلك أن كل وكالة حضرية تضم في الحد الأدنى 40 موظفا (الوكالات الحضرية الكبرى توظف قرابة 150 فردا)، بشكل يجعلنا أمام فيلق من الموظفين يصل إلى حوالي 1200 فرد، مع الإشارة إلى أن الوكالات الحضرية بالمغرب «تفترس» كل سنة مجتمعة حوالي 60 مليار سنتيم.
فما الفائدة إذن من أن نمص دم المغاربة لتخصيص 120 مليار سنتيم كل عام لوكالات الحوض المائي والوكالات الحضرية إن لم تضمن هذه المؤسسات سلامة الضوابط التعميرية حماية لأرواح المواطنين؟
ما جدوى هذه الطوابق الإدارية إن كانت النتيجة هي بناء 238 مدرسة فوق الأودية (بجهة واحدة فقط)، ثم التخلي عنها من بعد، مع ما يعني ذلك من إهدار مبلغ 143 مليار سنتيم وتعذيب الأسر التي تم تشتيت أبنائها على مدارس أخرى بعيدة؟
تحلى مدير أكاديمية سوس بالجرأة وكشف للرأي العام فضيحة 238 مدرسة، فهل سيحذو حذوه مدراء الأكاديميات الأخرى (خاصة التي تتميز بأقاليم جبلية في ترابها) ليكشفوا للرأي العام عدد المؤسسات المبنية فوق الأودية لنعرف حجم النهب والتبذير الذي طال المال العام بسبب جهل المبذرين للشأن العام أو تواطئهم مع جهات ما لتبقى "البردعة مقلوبة على الشعب"!
نعرف الجواب، لأن المحاسبة منعدمة بالمغرب، ولأن أبو جعفر المنصور العباسي مات عام 775 ميلادية!