تاريخيا ظلت الطائفة المارونية ببلاد الشام تحظى برعاية وعطف المستعمر الفرنسي، مما جعل النخب المارونية التي ولدت وعاشت وفي فرنسا تتسلق مختلف دواليب القرار الإداري والسياسي والإعلامي والمالي، بل وحتى الاستخباراتي بفرنسا. هذه الحظوة شملت أيضا بدرجة ثانية طائفة الدروز التي بقيت معظم نخبها تحت إبط فرنسا.
وبما أن مبادئ ثورة 1789، من حرية ومساواة وما شاكل ذلك من قيم كونية لم تكن صالحة إلا «في تراب فرنسا فقط»، فإن الاستعمار الفرنسي كان هاجسه الأساسي هو إثارة النعرات الإثنية والطائفية بالمشرق والمغرب على حد سواء. وكانت كتائبه التي يسخرها لهذا الغرض تنتمي بالأساس إلى الطائفتين: المارونية والدرزية.
لما استقلت بلاد الشام، بدأت فرنسا ترغب في إنشاء قناة لضمان التواصل الناعم مع العرب. وفي بداية السبعينات من القرن العشرين غرفت فرنسا من منبتها الماروني «الوفي لثوابث باريس»، فأثث المارونيون المشهد الإعلامي بالراديو والقنوات وحاز هؤلاء السبق في المشهد الإعلامي الفرنسي.
ومع الفورة التواصلية وعصر الأقمار الاصطناعية، اهتدت فرنسا إلى خلق قناة تستهدف بالأساس العالم العربي، فأحدثت في أواخر 2005 قناة «فرانس 24».
لكن هذه القناة تحتاج إلى عقل مدبر وأمين في ترجمة توجهات «الدولة العميقة الفرنسية». فوجدت باريس ضالتها في من تعتبرهم «أبناءها الأوفياء» من مارونيين ودروز.
بعد الانطلاقة المحتشمة لقناة «فرانس24» أواخر 2006 تم البدء في بثها باللغة العربية أواسط عام 2007، قررت فرنسا المرور إلى السرعة القصوى في إحكام «قبضتها الناعمة» على العالم العربي، فتم عام 2008 خلق «هولدينغ للإعلام الفرنسي الموجه للخارج» (AEF) وتم تجميع كل الأذرع الإعلامية تحت مظلة هذا الهولدينغ الرسمي الذي وضع تحت وصاية رسمية لوزارة الخارجية الفرنسية ووصاية صامتة للمخابرات الفرنسية الخارجية DGSE.
وفي الوقت نفسه تم الإتيان بسامي كليب (وهو من الطائفة الدرزية كان يعمل سابقا في قناة قطر «الجزيرة») الذي قدمه الدروز المقربون من الرئيس السوري بشار الأسد، فاختارته حكومة باريز «عرابا لقناة فرانس24»، خاصة وأن العلاقة كانت «سمنا على عسل» آنذاك بين فرنسا وسوريا، بل وتم استدعاء بشار الأسد لحفل 14 يوليوز 2008 الخاص بالاستعراض العسكري الفرنسي في العيد الوطني!
هذا الأخير (أي سامي كليب)، استقدم من جهته ابنة وطنه ناهدة نكد التي لم تتردد في الإطاحة به في 2011 (نحن الآن في بداية موجات الربيع العربي) تزامنا مع تدهور العلاقة بين فرنسا وبشار الأسد. وأصبحت ناهدة نكد هي «كليوباترا قناة فرانس 24»، وحرصت على تشغيل اللبنانيين بالدرجة الأولى، ثم السوريين في درجة ثانية، خاصة من الطوائف غير المسلمة، وحرصت على تثبيت المارونيين والدروز في مراكز المسؤولية بشكل قاد إلى احتجاج للعاملين بالقناة عام 2012 ضد «اللبننة» وضد العنصرية والتحيز الواضح للإدارة لقضايا بعينيها، فاضطرت باريس، إنقاذا لماء وجهها وحماية سمعتها من التلطيخ، إلى إقالة ناهدة نكد، لكن مع استعمال «المغرفة نفسها» التي تغرف بها الدولة العميقة بفرنسا ممثليها بالذراع الإعلامي لـ»الكي دورسي»، وعينت «مارك الصيقلي» مكانها الذي سار على النهج نفسه.
وظلت «قناة فرانس 24» وفية لهدفها ألا وهي توجيه أقصى ما يمكن من الضربات «الموجعة» لمن تراهم فرنسا يهددون مصالحها أو يعاكسون توجهاتها أو يحاولون التحرر من سطوة فرنسا وهيمنتها.
علينا ألا ننسى أن فرنسا كانت هي الشريك الرئيسي للمغرب، إلا أنها انزاحت من مكانتها لصالح إسبانيا التي أصبحت شركاتها أكثر ظفرا بالصفقات وأكثر استفادة من الميزان التجاري للمغرب (في السنوات العشر الأخيرة ارتفعت وتيرة استثمار الشركات الإسبانية بالمغرب بشكل بارز)، وعلينا ألا نغفل التمطط الاقتصادي للمغرب في إفريقيا، المحمية الطبيعية لفرنسا، من هنا، كلما تحركت كاميرا قناة «فرانس 24» أو حل فريق صحفي لمجموعة إعلامية فرنسية (وهي في معظمها مملوكة لرجال أعمال أقوياء ونافذين) بالمغرب، علينا أن نستحضر أولا أن ذلك ليس خالصا لوجه الله، بل قد يكون تمهيدا للدخول في «لعبة لي الذراع» للحصول على صفقة أو انتزاع حصة من السوق في هذا القطاع أو ذاك.
نعم، السياسة رموز، وفرنسا لها قنوات لتصريف مواقفها ضد «حلفائها»، إما بشكل ناعم (عبر الإعلام المكتوب والمرئي) وإما بشكل خشن (عبر المخابرات الخارجية والجيش)، وبالتالي فالمغرب الرسمي لما يتم تمرير نشرة أو برنامج يعاكس خطابه في «قناة فرانس 24» يلتقط الميساج ويفهم أن الهواتف اشتغلت بين جهازي الخارجية والمخابرات الفرنسية من جهة وبين إدارة «فرانس24» من جهة ثانية.
لكن - وهنا لابد من لكن- هل العيب في فرنسا وفي قناتها فرانس 24؟ أم العيب في المغرب الرسمي الذي يوجعه برنامج حواري وتؤلمه نشرة إخبارية بقناة الخارجية الفرنسية؟
لا، العيب ليس في فرنسا. ففرنسا دولة ذات سيادة ولها جينات استعمارية وهي تدافع عن مصالحها بكل السبل المشروعة والخبيثة ولا تتردد في استعمال أي وسيلة، حتى لو كانت القوادة الفعلية أو المجازية أو الإعلامية.
إن العيب في المغرب الذي لم يبن إعلاما قويا يقنع المغاربة أولا قبل أن يقنع الآخرين.
إن العيب في المغرب الذي أفلح في طي سنوات الجمر وفشل في طي سنوات رصاص فيصل العرايشي الخالد والجاثم على قلوب المغاربة، ويرفض تهوية الإعلام العمومي لتتسرب له الحرية لاحتضان النقاش العمومي الجاد والعقلاني بين كل أطياف المجتمع المغربي وملله ونحله.
إن العيب في المغرب الذي يرفض وضع الثقة في «أولاد الناس» لمنع هروب المغاربة من تلفزتهم ليسقطوا فريسة إعلام أجنبي موجه ومخدوم ومضلل، لكون إعلامهم العمومي لم يشبع فضولهم واحتقر ذكاؤهم واستبلد نضجهم!
إن العيب في المغرب الذي يتلذذ مسؤولوه بتعذيب المواطن في تلفزة عمومية (بقنواتها مجتمعة) دون أن يفلح في تقديم خدمة إعلامية عمومية تحترم ذكاء المواطن وتقدم له عرضا جذابا وصادقا ومهنيا!
والأمثلة لا تعدمنا: ها هو التعديل الحكومي، هاهي الفيضانات، ها هو تقرير المجلس الأعلى للحسابات، ها هو ملف التكوين المهني، ها هو ملف نزيف هجرة الأطر نحو الخارج، ها هي البطالة وانكماش الاقتصاد واحتلال الملك العمومي، ها هي فضائح الأصوليين الأخلاقية والمالية...فهل التقطها رادار الإعلام العمومي المغربي؟ هل عالجتها التلفزة العمومية بالشكل الذي يرضي ويقنع أوسع فئة من المغاربة الخاضعين للتكليف الضريبي؟
إن «جاذبية» فرانس 24 أو غيرها، ليست مرتبطة بـ»هجرة إرادية» للمتفرج المغربي بقدر ماهي نتيجة هجرة اضطرارية بسبب أورثوذكسية الإعلام المغربي.
انتصرنا على الإرهاب بعد أن جففنا منابعه، فما المانع من عدم تجفيف المستنقعات التي تتبضع منها القنوات الأجنبية محاور لبرامجها ولنشراتها حول المغرب.
جففوا المستنقع، واطردوا لعرايشي وانسفوا جدار برلين بين تلفزة المغرب والمغاربة.. وآنذاك رخصوا لكل قنوات العالم بأن تأتي للمغرب، فلي اليقين أنها لن تجد ما «تسخن به الطعارج» أو «تسخن به البنادر».
المؤامرة لا تحاك ضد المغرب في دهاليز الخارجية الفرنسية أو مخابراتها، بل في دهاليز زنقة البريهي.
إن العدو في عقر داركم وليس في عقر باريس!