عبد اللطيف برادة: الرجل المنشغل بهموم أمته 

عبد اللطيف برادة: الرجل المنشغل بهموم أمته  عبد اللطيف برادة

احذر فلا تجعل يدك ممدودة في الهواء الطلق ولا تطويها إلى حد عنقك

ولا تسرع الخطى في الطريق لأن ذلك قد يفزع ظلك

ربما في هذه اللحظة بالذات، قد ينتظرك في منزلك أو منزل جارك المرح، من يتتبع خطواتك

كما قلت لك احذر حتى من ظلك

إنني لأعلم كل شيء مما يقال عنك لكني أتكثم

إنهم انزعجوا منك وأنت تنطق الحكمة

ولقد انقلبوا على وجوههم لمجرد معرفة أنك في طريقك إلى المجد

فاحذر أيها الخطيب ولا تكن ساذجا في حياتك

عليك أن تتغلب على من طعنك في ظهرك

حاذر أن تكون مرتبا وأنيقا ونظيفا كمثل هؤلاء المغفلين السذج

لأنه لغير لائق بك أن تكون كطير البجع ناصع البياض

إنه لغير مهم أن تكون أنيقا أو أن تفوح عطرا

يكفي أن تمتلك هذه الرأس الرهيبة

إن القلب الذهبي لأروع من الذهب

إن الروح المرحة لهي أنظف من السكين المعقمة التي تطعن ظهر الصديق والقريب

وإن كنت تعلم سر كلامي تكثم ولا تبح بالسر

مثل هذه الحقائق المذهلة والفظيعة لا تليق أن تذاع على الملأ

فلا بأس إن كنت لا تعتني بمظهرك وبكل الأشياء التافهة

ففي مثل هذه الحالة كان فان جوج العبقري 

كان يتجول بملابس رثة ورائحة تنفر النساء

وأنت تعلم اليوم أين هي مكانة الرجل الذي تجاهله وهو الآن يتربع على عرش المجد

فتولستوي الذي كان يملك العبيد وأراض شاسعة لا تعد ولا تحصى ترك كل شيء من ورائه ثم جال في الفيافي سيرا على الأقدام

هكذا كان يتجول الرجل بمظهر الناسك

لم يكن يبالي بأسرب الجراد التي تحوم حوله وبنعيق الضفادع التي انزعجت من خطاه

ولا حتى بالغربان ولا السلاحف التي تتعقب خطاه

فلم يكن معه إلا مرافق واحد فقط

رفيقه هو ظله ثم الكتاب والإيمان بالرب

ماذا يعنيك فيما يقولون عنك إن كان هؤلاء مجرد عبيد

هكذا هم في المدينة كل الأسياد مجرد مختلسين

يعتنون برونقهم حتى يندسوا في صفوف العامة ويسلبون الأموال

ولهذا فإنهم مهما بلغوا من مال سيقعون لا محالة فريسة للسخرية والقيل والقال

بالطبع كل شيء قد أصبح الآن شبه مفضوح

 كل الأشياء التي كانت تدار في الخفاء أصبحت الآن نوعا ما يعرف عنها كل شيء

وحتى إن تظاهروا بأنهم أسياد فإنهم صدقني مجرد خدم

لا تناقشهم فيما لا يفقهون وخذهم على قدر عقولهم

اتركهم على حالهم كما يشاؤون وتخلص من عقباهم

لكن صدقني أنهم مهما بلغوا من على، فهؤلاء في تقديري ليسوا إلا حثالة وبقايا لعهد قديم

اتركهم وشأنهم لكن لا تدعهم ينسون الأصل

 ذكرهم بما كانوا عليه ما قبل السرقة والنهب

لقد بدأوا كمجرد متسولين فاعتلوا إلى ما فوق

وقد يعودون مرة أخرى إلى القهقري متدحرجين من القمة إلى الأسفل

عندما ستدق ساعة الخلاص سيكون الحساب من دون شك عسير

إنهم كما قلت مهما أدركوا من علو ليسوا في الأصل سوى مجرد عبيد

هذه هي الحقيقة المرة التي عليهم أن يتجرعوها كي يستفيقوا من السبات

فلكي يتحرروا من رقبة الرق عليهم أن يطالبوا مرة أخرى

بروحهم التي سلبت منهم وهم نيام

كل ما يرغبون فيه اليوم هي الملابس الأرجوانية

تاج جميل مرصع بألماس ثمين، ورائحة مستوردة من باريس

كل ما يرغبون فيه هو العديد من الخدم، ومرافقة الأثرياء الذين يتفوقون عنهم فحشا وثراء

لكن إن كل من تعلم الحكمة يعرف ما يريد ويرفض كل هذه العروض الضحلة

ذلك لأن الحكيم يعلم مسبقا أنه عليه إذا أراد أن ينعم بالسعادة أن يستغني عن كل هذا الترف

وهكذا وبكل تعنت سيظل هكذا متواضعا وعنوا رديء المظهر

أما رائحته التي ينعتونه بها فهي بكل تأكيد وهم يعلمون ذلك فهي نابعة لما تجرعه من سمهم القاتل

لقد دس له كل صباح في كأس من الكريستال مرصع بأحجار من الألماس 

فهكذا إنه يعلم أن رائحة الطيب تخفي دناءتهم ومكرهم ولهذا قرر أن يهجرهم إلى الأبد

وأن يأخذ ملجأ في منزل حرفي صغير

فلماذا سيعتني بهذه الأشياء التافهة التي لا تدوم إلا بعض الوقت

ولما وليس لديه ما يخفي

كل همه ليس نفسه بل قضايا أمته

تراه كل يوم منشغلا يشاطر هموم الإنسانية الضائعة

له طموح عظيم كي يرفع قضايا أمته في كل المنابر

وها هو يستعد لكي يذهب في يوم ما إلى مجلس هيئة الأمم المتحدة

نعم إنه يرغب في أن يذهب إليهم على شكل رجل فقير لكن غير متقاعس

لن يفعل ذلك لكي يتوسل بشكل فظيع من أجل كرسي أنيق ومريح وراتب سخي

بل لكي يرفع صوته أعلى ويطالب بكل الحقوق لشعبه البائس

ومن أجل إيجاد كذلك حلولا ناجعة لقضايا أمته الأزلية

يعلم أنه لن يتراجع وكيف وهناك صوت خفي يطارده من الداخل

فماذا يقول يا ترى هذا الصوت

فإن كنت تعتقد أيها الخطيب أنك تنتمي إلى النخبة

فاعلم أنه عليك اليوم أن تراجع نفسك

وعليك كذلك أن تفكر جيدا في الأمر

لأنه أبدا لن يليق بك أن تنتمي إلى فئة الأوغاد

انتبه إلى الطريقة التي ستكتسب بها القوة

ربما الصدفة قد منحتك المكانة التي أنت ترغب فيها

فتذكر أن الوسيلة التي أوصلتك حيث أنت ليست هي ذاتها التي ستحميك عند المنعرجات

ليس الحظ وحده كما تظن هو الذي أوصلك إلى ما أنت عليه

إنها الحكمة وحدها التي ستوصلك إلى درجة السيطرة التامة على النفس الأمارة بالسوء

تذكر ذلك جيدا أن الحكمة هي التي منحتك رشد العقل

فلا تتعجل وتريث

قد يصير عن قريب قدرك كمثل مجدك في الأعالي

قد تنتصر على قوى الظلام وستتذكر كل الماسي التي مرت بحياتك

ولما تبالي فإنها كلها مجرد أوراق ذابلة لا تستحق الذكر

تطلع إلى الغد واجعل أملك كله في كفة الميزان الذي لا يميل

تذكر ما سأقوله لك

هناك بعض المدن التي ستحتفل بإنجازاتك

وفي كل بقاع الأرض سيذكر اسمك

من إيطاليا واليونان إلى باقي أنحاء العالم سيتفوهون بكلماتك

 ستتعجب كثيرا لما يقع

إذ ستمنح لك أوسمة من أناس كانوا بالأمس يجهلونك

قد تستلم على مضض كل الشهادات الفخرية وأنت تتساءل عن جدوى ما منح إليك

من دون شك لك كل الحق فيما تقول

فتكلم ولا تكتم أنفاسك

قل الحق ودع معجبيك يصوتون لك في كل بقاع الأرض

في روما أو في الصين وحتى في بلاد الغال الذين لا ينطقون لغة الضاد

ومع كل ذلك ففرحتك وانتصارك لن يكونا كافيين لكي تشعر بأنك فعلا رجل متفوق

وحتى إذا تغنت بقصائدك كل الشعوب فلن تكتمل فرحتك

لن تستريح إلا إذا مررت في الشارع وأنت تسمع صدى كلام الناس يتردد على مسمعك

تنصت إليهم وهم يعلقون بصوت مرتفع يا له من شاعر غريب الأطوار لكن رفيع الذوق

وفي يوم غير معلوم سيسحبك أبولو إلهة الشعر إلى الإسكندرية

هناك ستتوج ملكا للشعر المقفى

هناك سيقدم لك رأس إيريبوس التعيس على طبق من ذهب

عندها فقط ستكون قد انتصرت يقينا على قوى الظلام...