عندما ترحل ممثلة من طينة محسنة توفيق، تتوقف آلاف الأفلام عبر صالات العالم عن العرض، وتتراجع الشاشات الصغيرة عن تقديم برامج التفاهة وأشرطة المقاولات، وتنزوي عشرات الأقلام مضربة حقا عن تدبيج السير على صفحات الجرائد والمجلات، وتخرس الألسن الناطقة بالحكمة، أمام جلل اللحظة، وهول المصاب، لتفسح المجال للحزن والبكاء، ومحاولات القبض على اللحظة المشرقة المقتطعة من كتاب الفن الجميل، قبل هروبها نحو مجاهل النسيان.
محسنة توفيق، لم تمارس، خلال مسارها الطويل العريض، حرفة التمثيل، بالمعنى التقليدي لمفهوم التمثيل، بل مارست النضال فوق خشبات المسارح، وعلى شاشات التلفزيونات والقاعات السينمائية، لبلدان العرب السادرة في غي الانتصار للرداءة والفجاجة، وإدارة الظهر للأسماء الوازنة الرزينة المناضلة، الأسماء التي نذرت حياتها، من أجل زرع بسمة صافية صادقة، وتكريس مفاهيم العشق الخلاق للفن الرفيع.
محسنة توفيق، لم تكن تتهافت على العقود أوالإقتراب من أصحاب الجاه والمال، للحصول على أدوار لا تسمن ولاتغني من جوع المعرفة الحقة، في أفلام مصنوعة بضلال الجهل، والبحث عن اصطياد جمهور أكبر، وتكريس شعار "الجمهور عايز كده".
محسنة توفيق، أحبت المسرح والسينما بكل حق، فأحبها الناس بكل صدق، وظلوا أوفياء لصورتها البهية الطالعة من عمق التراث المصري الأصيل، والمواقف البطولية الوفية لآلاف الشهداء، الشهداء الذين اختلطت دماءهم الزكية برمل شبه جزيرة سيناء الأبية.
محسنة توفيق، لا يمكن أن ينساها كل عاشق حقيقي للفن السابع العربي المختلف، وهي تصرخ بكل ما أوتيت من قوة: "حنحارب..حنحارب.."، في فيلم العصفور، لسيد الشاشات العربية يوسف شاهين، صرخات لم تترجم سطور كتبها سيناريست أو صورها مخرج، بل كانت صرخة نابعة من قلب امرأة مصرية حقيقية، امرأة تقف بكل بطولة في وجه التزييف والمسخ وكبت الأنفاس، التي يحاول البعض فرضها على شعب عرف عبر التاريخ برفع الراية عاليا، والدعوة للمقاطعة والمواجهة، صونا للكرامة الوطنية...
عندما كان الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم يكتب قصيدة "مصر يا مه يا بهية"، أكيد أنه كان يكتبها لمصر البهاء والنيل، لكن في عمق العمق كان يكتبها لمناضلة فنانة اسمها محسنة توفيق، فلا عجب أن تكون محسنة هي بهية، في الفيلم والحياة ووجدان الآلاف المؤلفة من عشاق الصورة السينمائية، وأن تكون ملهمة العشرات من الشباب العربي الحالم بأن يكون ممارسا لمهمات النضال والفن وحب الجمال، النضال والفن وحب الجمال الذي يلزمنا اليوم، أمام الرحيل وهول المصاب، أن نرفع يافطة المطرقة والمنجل، وأن نردد شعار الحرية مع العمال والفلاحين وكل الكادحين المقهورين، عبر مجرى النيل، والبقية المتبقة من سهول وجبال ووديان عالمنا الذي لم يعد عربيا، وأن نستعير صوت الشيخ إمام، بعينيه المطفأتين المضربتين عن النظر لوجه الذل، وقلبه النابض بالعفوية الصادقة، وبحته الفاتنة القاتلة الغامرة العامرة بآهات المحرومين، وعمقه الغنائي المتجدد، رغم مرور الزمن وهجوم الأصوات المرتجة الذابلة، وبصيرته المتفردة المتمردة في الدعوة لحب الوطن، ونغني معه غناء المجد والخلود، لمحسنة العهد القديم/الجديد، والأجيال القادمة الحاملة لأمل التغيير، أغنية:
مصر يا امّة يا بهية
يام طرحة و جلابية
الزمن شاب وانت شابة
هو رايح وانت جاية
جايه فوق الصعب ماشية
فات عليكي ليل ومية
واحتمالك هو هو
وابتسامتك هي هي
تضحكي للصبح يصبح
بعد ليلة ومغربية
تطلع الشمس تلاقيكي
معجبانية وصبية
يا بهية
عبد الإله الجوهري
مخرج وناقد سينمائي