سعيد الكحل: درس نيوزيلندا درس لنا

سعيد الكحل: درس نيوزيلندا درس لنا سعيد الكحل

قدمت نيوزلندا للشعوب الإسلامية وحكامها درسا بليغا في التسامح والتعايش مع الأقلية المسلمة إثر الهجوم الإرهابي على مسجدين أسفر عن مقتل 50 ضحية. لم يكن متوقعا من رئيسة وزراء نيوزلندا وشعبها أن تتداعى بهذا الشكل الراقي والإنساني تعبيرا عن مواساتهما للمسلمين واحتضانها لهم، لكنها القيم الإنسانية السامية التي تطبع الشعب النيوزلندي تجسدت في مشاطرة المسلمين أحزانهم. تكاد تكون نيوزلندا البلد الوحيد الذي يخلو من فقه التكفير والتحريض على القتال في مناطق التوتر؛ لهذا لم يلتحق أي من النيوزلنديين والأقلية المسلمة المقيمة هناك بالتنظيمات الإرهابية كما لم تفكك الأجهزة الأمنية أية خلايا إرهابية. طبيعة التسامح هذه التي حصّنت المجتمع النيوزلندي وقوّت وحدة نسيجه هي التي استغلها منفذ الهجوم الإرهابي على المسجدين لضرب هذه الوحدة المجتمع المجتمعية وتمزيق النسيج الثقافي الغني بتعدد مكوناته. والمبادرات النابعة من طبيعة التسامح وقيمه التي تميز النيوزلنديين كانت الغاية منها الرد على كل من يستهدف وحدتهم ويزعزع استقرار مجتمعهم. والدرس الذي على جميع المسلمين استخلاصه والاستفادة منه في كيفية تعامل الحكومة والشعب النيوزلندي يقتضي من الأنظمة السياسية والحكومات والفقهاء والشعوب الإسلامية ما يلي :

1ــ تغيير الخطاب الديني وليس فقط تجديده. فالخطاب الديني السائد قائم على الاستعلاء الديني والتسامي الأخلاقي للمسلمين على غيرهم من بقية الشعوب غير الإسلامية؛ مما يجعل من الصعب احترام أتباع باقي الأديان ومعتقداتهم.

2ــ إشاعة ثقافة التسامح والتعايش وقبول الاختلاف. فالثقافة السائدة في المجتمعات العربية/ الإسلامية امتزجت بالمعتقدات الدينية التي صاغتها الفتاوى الفقهية أفرزها سياق تاريخي لم يعد قائما. لهذا ظلت الثقافة الموروثة  تغذي ميولات الإقصاء والعداء والكراهية. بل إن هذه المجتمعات تفتقر إلى قيم الاحترام والتعايش بين طوائفها المذهبية والدينية.

3ــ الكف عن التحريض ضد الغربيين  وشيطنتهم في البرامج الدينية والمواعظ  الفقهية وخطب الجمعة أو البرامج التعليمية والإعلامية. فكل هذه البرامج مبنية على فكرة "التآمر" ضد الإسلام والمسلمين مما يجعلها تستمرئ تحميل الغربيين كل شرور المسلمين .

4ــ  تجريم ازدراء الأديان وتكفير أتباعها؛ إذ لا سبيل للكف عن الإفتاء وتداول فقه تكفير غير المسلمين وتسفيه معتقداتهم إلا بوضع تشريع يجرّم ازدراء الأديان وتسفيه المعتقدات مع تشديد العقوبات.

5ــ سن قوانين تضمن للمواطنين حرية الاعتقاد وتغيير المعتقدات الدينية والمذهبية.

6ــ التنصيص دستوريا على مدنية الدولة وحيادها إزاء كل الأديان وضمانها حرية ممارسة الشعائر الدينية من قبل أتباع كل الديانات والملل. فمسئولية الدولة ضمان الحريات والحقوق لجميع المواطنين بغض النظر عن عقائدهم ودياناتهم ومذاهبهم طالما احترموا إطار الدولة ومؤسساتها.

7ــ دسترة حقوق المواطنة ووضع تشريعات قانونية تحمي هذه الحقوق وتضمن حرية ممارستها والاستفادة منها. وهذا يقتضي أن يكون الوطن للجميع.

8ــ الارتقاء بالمواطنين وبوعي انتمائهم إلى الإنسانية جمعاء التي يتقاسمون معها نفس القيم والمبادئ الإنسانية السامية بعيدا عن الانتماءات المنغلقة (دينية، مذهبية، عرقية، طائفية الخ). وكلما شاع الشعور بالانتماء لكل البشرية تولد لدى الشعوب الإسلامية إحساس التعاطف حين حدوث كوارث لغير المسلمين بدل التشفي والتفسير الغيبي بكونها عقابا إلهيا.

لقد آن الأوان كي تراجع الدول العربية/ الإسلامية سياساتها الدينية والتعليمية والإعلامية لتركز على المشترك الإنساني والحضاري بين شعوب الأرض وتربي أبناءها على ثقافة وقيم حقوق الإنسان. فحين خرج الشعب النيوزلندي بكل فئاته متضامنا مع أقليته المسلمة، لم يخرج تلبية لنداء الدين أو العرق وإنما تجسيدا للقيم الإنسانية التي تشبع بها. تلك القيم هي التي جعلته وتجعله يحترم الأقليات الدينية ولا يرى في معتقداتها تهديدا لنسيجه المجتمعي أو وحدته الوطنية.

فهذا هو الدرس الحقيقي الذي يتوجب على الدول والشعوب العربية/ الإسلامية استخلاصه من تضامن الحكومة النيوزلندية وشعبها بتلك الطريقة الراقية.