على أحد مواقع التواصل الاجتماعي نشر صاحبه صورة لامرأة يبدو وجهها متواري خلف كتاب وعلى ظهر الحائط كتبت الجملة العريضة الآتية: "كلما تعلمته من الكتب العربية هو أن العرب (كانوا)".أكيد أن هذه العبارة يطبعها غير قليل من التعميم وربما صاحبها يحمل ألما ما، لكنها تفصح عن واقع مرير أصبح هو السائد حيث الناس يهجرون أفواجا إلى ماض مضى واندثر دون رجعة.
ذات زمان كتب المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ (1886-1944):"البشر هم أبناء عصرهم أكثر من آبائهم". قد تبدو هذه العبارة من البديهيات، لكن ما الذي يجر فئات واسعة من الناس في عصرنا إلى الرغبة في العيش في أزمنة غابرة ؟ ما الذي يحول أنظار مجتمعات من التطلع إلى مستقبل يليق بشكل وجودها إلى الحنين إلى نمط عيش لم يعد قابل للعيش ؟ ما الذي يجعل أمة تغيب عن حاضرها وتتحول إلى مجرد كائنات تراثية يغريها كل ما هو آت من ماضي الأجداد رغم أنه لا يقدم أي نماذج أو برامج صالحة للعصر ؟ ما الذي يحفز جمهور عريض على النفخ في رماد بدل إيقاد النار ؟ ما الذي يغري شرائح مختلفة من الشعوب كي يعملوا جاهدين على إيقاظ الموتى وجعلهم يفكرون ويقررون مكانهم بدلا من أنفسهم ؟ أي برامج أي مشاريع أي مستجدات أي اقتراحات مازالت مخبوءة تحت رميم الأجداد غير الإعلان على أنهم مروا ذات زمان غابر على سطح هذه الأرض وسجلوا حضورهم في عصرهم بالشكل الذي ناسب زمنهم لا زمان أحفادهم وتركوا آثار أقدامهم وبصمات أصابعهم ؟ ما الذي يجعل شعوبا بدل أن تتماها مع حاضر الأمم المتقدمة وتحاكي الشعوب الناجحة راحت تنسج وترمم ماض مثالي كي تسكنه بكل جوارحها ؟ ما الذي يجعل منظومات جاهزة ومغلقة وأفكار أجيال غابرة من طينة ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب...تطفو في أفقنا وأصبحت مرغوب فيها بدلا من إطلاق العنان لعقولنا وفكرنا ؟ ألا نمتلك إمكانات التشريع لأنفسنا بعيدا عن استحضار نصوص راح زمانها ؟ لماذا أصبح أبطال من طينة خالد ابن الوليد وصلاح الدين الأيوبي...يمثلون نماذج للإقتداء بدل الانخراط والانتماء لعصرنا ؟
هذا الكم الهائل من الحضور للأفعال والأفكار والرموز الماضية ومن الحنين للعيش في ماض لم يعد يُحَدِّث أحدا ولم يعد صالحا للحياة، هذه الكثافة من الدعوات اللامتناهية للعودة إلى رميم الأجداد وما تبقى من الأطلال التي لم تعد صالحة للسكن. هذا الإصرار على ارتداء جلباب الأجداد المتآكل والذي لم يعد يقي من قر أو حر العصر. في كل مرة تطلع علينا جهة ما بنبأ أو إعلان: "الجنة الأرضية في ثنايا طلاسم الأولين"،"مستقبلنا في ماضي أجدادنا"،"مفاتيح الحاضر موجودة في الماضي". هذه الدعوات المتكررة إلى جعلنا نعتقد أننا لا نسكن الحاضر إلا مؤقتا أو بشكل خفيف أو لسنا من أهله في انتظار ماض سيعود لينقذنا ويحررنا من براثين تخلفنا وجهلنا وكي يعبر بنا إلى مستقبل ماض كان هو حاضر أجدادنا. هل نحن شعوب تراثية حتى اللعنة ؟ أم حيوانات لا تملك من الأبعاد إلا بعدا واحدا قارا هو الماضي؟ هذه النداءات المسترسلة التي تعمل على تغييبنا كأفق ولا تستحضر إلا ما تلاشى وأصبح من عهد عاد. أي خلاص تحمله لنا والذي تعمل على استخراجه من أجداث الذين مروا ودبوا من قبلنا على سطح هذه الأرض ؟ هذه المشاريع التي لا تصرّف الأفعال كلها إلا في الماضي دون الحاضر والمستقبل. لماذا كل هذا الإلحاح على أن يسكننا أجدادنا ويتحدثون فينا ومن دواخلنا بدلا من أن نسكن أنفسنا ونتحدث عن ذواتنا نحن وفق متطلبات عصرنا ؟ يبدو أن المستقبل كأفق لا أفاق له داخل جميع هذه البرامج والأجندات العدمية.
جيش من الدعاة والوعاظ والشيوخ رأسمالهم الفكري والمعرفي: هول وعذاب القبور وحَجْبُ المرأة ووأدها مع الاقتيات من كل ما هو عجائبي غرائبي وخرافي، يشتغل تحت منظومة جاهزة أرضيتها المنع وسقفها التحريم وأفقها الآخرة، يطفوا ويغزوا الفضائيات وجميع مواقع التواصل الإجتماعية والمساجد والفضاءات العمومية، يلقى الترحيب والمساندة من طرف جمهور عريض من الموردين.
لماذا يراودنا هذا الكم من الأوهام بشكل مسترسل دون انقطاع أو توقف و دون حتى أن نتساءل ؟ ما الذي حولنا إلى مجرد كائنات تراثية تفكر تراثيا تنام وتأكل وتعمل وتتنفس تراثيا ؟ شعوذة تمتد في كل الاتجاهات (العين والحسد والشيطان والآخر) كأدوات للتحليل وكخلاصات لتفكيرنا، لماذا نجاور كل هذه الأصوات التي تدعونا وتشدنا دائما إلى الوراء إلى الخلف إلى الماضي وفي أخف وأقل الأضرار تعمل على استدعاء هذا الماضي بحذافيره. حتى الآن لم ينفذ صبرنا ونحن ننتظر المهدي المخلص الذي سيأتي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا وسعادة بعد أن ملئت جورا وفسادا !
دجلة يأتوننا من أصقاع التاريخ محملين بكل ما فات ومات ورميم ونحن نصطف من ورائهم كأنهم حاملين لنا نصر الله المبين وسيعبرون بنا إلى جنات الأرض والسماء أفواجا. لقد استنفذنا كل خطابات المنع والتحريم والآخرة وهجرنا العقل إلى اللاعقل. لماذا كل هذا الإصرار على استدعاء كل ما هو مظلم من تاريخنا والدفع به للإشتغال مع جعله المحور في كل برامجنا ؟ لماذا تحولنا إلى بومات العصر لا نحط الرحال إلا على ما تبقى من أطلال أو خراب أو أجذاع نخل خاوية ؟ لماذا صرنا غربان عصرنا لا نقتات إلا مما هو جثث ؟ لماذا أصبحننا نضاهي الأنعام أو حتى أكثر في الاجترار ؟ كيف تحولت شواهد قبور أجدادنا إلى أشكال من قشاة الخلاص في عصر ركائزه: العقل والعلم والقوة ؟ لقد أكثرنا من النفخ في رماد بارد هجرته النار والجمر منذ عهود. لماذا تغيبنا عن حاضرنا ولازلنا نصر على تسجيل حضورنا في حاضر كان لأجدادنا وأصبح من العصور الغابرة ؟
هذا الكم من المعجزات ! ما الذي حولنا إلى كائنات لا تضع رؤوسها إلا على مخدات الأوهام ؟ يبدو أن السحر الذي عمل الغرب على نزعه من عالمه التقطناه نحن وأضفناه إلى ما هو متراكم علينا.
يبدو أن إعصارا ما مر ولم نعد نرى إلا أشلاء وشظايا التفكير الحر الفلسفي العميق وأصبحت القلة القليلة من يقتات من بقايا هذا الفكر وراحت الأغلبية تتماها مع فكر سلفي دعوي وعظي تقليدي يشتغل على شكليات وجزئيات مملة وقاتلة وتمتح من تراث يدعو ويستحضر كلما هو رميم. العقم هو عنوان المرحلة ولاشيء يعلو فوق التفاهة، والضحالة هي المسبح الوحيد الذي أصبح الجل يستحم فيه تحت مسميات وعناوين وتوقيعات متعددة.
الدولة المستبدة المجاورة للحداثة سلبت منا الحاضر وكل إمكانات التفكير والبرمجة للمستقبل هكذا تحولنا إلى سيزيف العصر وأصبحنا نعاند الزمن ونعاكسه فكلما تقدم العصر خطوة إلى الأمام عملنا بكل قوانا لنعيده إلى الوراء وتحول الماضي إلى مغناطيس لم نعد ننجذب إلا له، هذا الماضي الذي أصبح مجرد وعود وهمية لتوفير مخدات مريحة وكل أشكال الاطمئنان الوجداني والنفسي كأنما شكل الوجود الوحيد الممكن والقابل للعيش الذي تبقى لنا هو ماضي أجدادنا.
لقد عمل العقل السلفي الدعوي الوعظي بكل ما أوتي من قوة وبجميع الوسائل ونجح إلى حد ما في تحويل الماضي إلى قيود من أجل السيطرة على كل ما هو عقل وحرية ومستقبل في أفق الشعوب الإسلامية.
في هذا الزمن الذي يعرف فشل المشاريع وانسداد في الآفاق وانسحاب السرديات الكبرى إلى الهامش، إذ لم تعد قادرة على الإشتغال تحت أي وعد جميل، أو أن تقدم إجابات مطلقة ونهائية وأن تبشرنا بجنّات فوق الأرض. في هذا الخضم سقطت البوصلات وتاه الكثيرون في صحاري الخواء والفراغ، واتسعت رقعة العدم ولم يجد العقل السلفي الكسول من وسادة مريحة كي يضع رأسه عليها إلا ماضي الأجداد. نعاند الزمن ونعاكسه فكلما تقدم العصر خطوة إلى الأمام عملنا بكل قوانا لنعيده إلى الوراء وتحول الماضي إلى مغناطيس لم نعد ننجذب إلا له، هذا الماضي الذي أصبح مجرد وعود وهمية لتوفير مخدات مريحة وكل أشكال الاطمئنان الوجداني والنفسي كأنما شكل الوجود الوحيد الممكن والقابل للعيش الذي تبقى لنا هو ماضي أجدادنا.
لقد عمل العقل السلفي الدعوي الوعظي بكل ما أوتي من قوة وبجميع الوسائل ونجح إلى حد ما في تحويل الماضي إلى قيود من أجل السيطرة على كل ما هو عقل وحرية ومستقبل في أفق الشعوب الإسلامية.
في هذا الزمن الذي يعرف فشل المشاريع وانسداد في الآفاق وانسحاب السرديات الكبرى إلى الهامش، إذ لم تعد قادرة على الإشتغال تحت أي وعد جميل، أو أن تقدم إجابات مطلقة ونهائية وأن تبشرنا بجنّات فوق الأرض. في هذا الخضم سقطت البوصلات وتاه الكثيرون في صحاري الخواء والفراغ، واتسعت رقعة العدم ولم يجد العقل السلفي الكسول من وسادة مريحة كي يضع رأسه عليها إلا ماضي الأجداد.