في إطلالة سريعة وبنظرة عامة للتطورات الإقليمية والدولية المحيطة بالمغرب، تبدو الأوضاع الاستراتيجية للبلاد غير ضاغطة بالمرة عليها وعلى سياساتها، خصوصا بعد أن خفت الضغوط الأوروبية والأمريكية، التي اعتادت الغمز من زاوية حقوق الإنسان وضرورة حسم الاختيار الديمقراطي. على العكس تماما فهذه الأوضاع الآن مريحة إلى حد كبير بشكل لم ينعم المغرب بمثله منذ زمن بعيد.
*دوليا تزداد الثقة أوروبيا وأمريكيا في القدرات المغربية على صعيد الحرب الاستباقية ضد الإرهاب إن كان ذلك في الداخل حيث أجهضت عمليات عديدة واكتشفت خلايا متعددة أو في أوروبا نفسها، ولا سيما في فرنسا وبلجيكا بعد حوادث باريس وبروكسيل، التي لعبت المخابرات المغربية دورا كبيرا في كشف ملابساتهما.
نفس الثقة الأوروبية والأمريكية امتدت إلى نبل التعامل الإنساني المغربي مع قضايا الهجرة غير الشرعية ؛ الأمر الذي أثبت رغم الحساسية المفرطة للموضوعين معا، ومدى ترابطهما وتشابك المعطيات فيهما وجود مصداقية كبيرة للمغرب في الوفاء بالالتزامات التي أخذها على عاتقه، وفي تحمل مسؤوليته كاملة دون تلكؤ أو تقصير متعمد.
واكبت هذه الوضعية مع الشركاء التقليديين في الغرب انبثاق إرادة جادة وصادقة أبداها المغرب في استعداده للمزيد من فتح الأبواب أمام شراكة واسعة الأفق ومتنوعة المجالات مع روسيا الاتحادية العائدة بقوة إلى الساحة الدولية كأحد الأقطاب الرئيسية رغم جسامة العقوبات الغربية المفروضة عليها.
بدت هذه الإرادة جلية خلال زيارة جلالة الملك محمد السادس لموسكو، والزيارات العالية المستوى التي تلتها، كما اتضحت مؤخرا في سرعة التحرك من أجل تطويق أزمة التصريحات المنسوبة إلى رئيس الحكومة المكلف حول الدور الروسي في سوريا. وهي تصريحات ربما كانت على صلة بالعراقيل التي تحول دون تشكيل الحكومة الجديدة.
*اقليميا يتضاعف الاهتمام الدولي والاقليمي بالنشاط الرفيع المستوى الهادف إلى توسيع إشعاع المغرب في القارة الإفريقية ليرتاد مناطق غير معتادة في تحركاته الدبلوماسية تهم بصفة خاصة عددا من دول افريقيا الأنجلوفونية، سيما في شرق القارة.
والجديد في هذا النشاط ليس كثافته فقط، وإنما منطلقه أيضا، المتمثل في الرغبة في تفعيل تعاون جنوب / جنوب عبر عروض جدية في إرساء أسس متينة ومتنوعة المجالات في الطاقة، والفلاحة والاتصالات والأبناك، وتشجيع الاستيراد والتصدير بغية الوصول إلى شراكة تقوم على مبدإ رابح رابح.
يأتي هذا التوجه استكمالا لأنشطة مماثلة في غرب القارة ميزها أيضا تعاون وثيق في المجال الديني والروحي سعيا إلى ترسيخ مبادئ الاعتدال وفق أسس المذهب السني المالكي، ومواجهة الغلو المنتشر عن طريق التيارات الدينية المتطرفة، وما أفرزته من تنظيمات مسلحة باتت تشكل تحديا أمنيا
خطيرا في المنطقة. كما يأتي متسقا مع الطلب الرسمي للمغرب بالانضمام إلى الاتحاد الإفريقي وهجر سياسة المقعد الفارغ رغم المخاطر والتحديات التي يطرحها هذا الانضمام، والتساؤلات القانونية والسياسية التي يثيرها.
والملاحظ أن تنامي النفوذ المغربي على الصعيد الإفريقي، وتزايد مصداقية أدواره المتعددة في القارة السمراء يتوازى مع ثبات حضوره الوازن في الساحة العربية، وخاصة على الواجهة الخليجية، التي تقدر دولها فرادى وجماعة للمغرب عاليا دعمه الأمني والسياسي لها دون منة، كما تجلى ذلك في مساهماته في مبادرات التحالف العربي وعاصفة الحزم.
إن وضعية استراتيجية مريحة كهذه تثير بدون شك إعجاب المتابع والمراقب والمحلل أيضا وتدفعه إلى انتظار نتائجها وقطف ثمارها، ولكنها في ذات الوقت تستفز الخصوم والمنافسين الذين لن يصمتوا ولن يستكينوا، سيما وأن أغلبهم لديه قدرات كبيرة على الهدم والتشويش، ووضع العصي في العجلة أكثر من قدرات البناء، ولن يتردد في استخدامها، لأنه يعتبر النشاط المغربي مساسا سلبيا وضررا محدقا بمصالحه المادية والمعنوية.
في مثل هذه الحالة يفترض في الجهة المخططة للتحركات المغربية الخارجية أن تضع في الاعتبار وجود خصوم ومنافسين، مشوشين ومعرقلين يشتغلون في الكواليس والخفاء أكثر من الاشتغال تحت الأضواء. وهذا أمر طبيعي في العلاقات الدولية، وخاصة في ظل الظروف الدقيقة التي يمر بها العالم، والمنطقة العربية بشكل خاص.
لهذا، فإن الأخطر على حيوية عجلة النشاط الخارجي للمغرب ليس هو عصي الخصوم والمنافسين، وإنما تصرفات وسلوكات تجري في الداخل بعضها يبدو آنيا ولحظيا، ولكنه يعكس خللا بنيويا في تركيبة السلطة والمجتمع لم يعد ممكنا تجاهله بعد أن ضاقت هوامش المناورة وتكاد تنعدم ؛ الأمر الذي يقتضي الصراحة في طرح الإشكاليات لكي تكون المعالجة فعالة وناجعة، بعيدا عن المسكنات التي أدمناها بالهروب إلى الأمام.
لقد كشفت تطورات ما سمي إعلاميا بالبلوكاج الحكومي أن النخبة السياسية السائدة في الساحة ومعظمها وصل بإنزال قسري دون التوفر على المقومات الضرورية للزعامة تفتقد للحد الأدنى من الوعي بالمخاطر التي قد تتعرض لها البلاد، كما يتضح ذلك من الانتهازية والتخندق الحزبي اللذين أبانت عنهما كافة الأطراف المنغمسة في مشاورات ومناورات تشكيل الحكومة غير عابئة ب :
1/ أن الوضعية المريحة نسبيا الآن للمغرب في محيطه الإقليمي وعلاقاته الدولية وضعية غير دائمة، في مناخ عالمي الثابت الوحيد فيه هو التغير المستمر. ومن البديهي أن تتعرض هذه الوضعية لهجومات مضادة من أكثر من جهة وعلى أكثر من واجهة، وهي هجومات قد تصيب أهدافها بيسر إذا وجدت أمامها جبهة داخلية غير محصنة، وربما مفككة.
2/ أن سلوك بعض مكوناتها الانتهازي والأناني أوحى للعديد من المراقبين الأجانب الحديث عن وجود عدم استقرار سياسي في المغرب من شأنه أن يبدد إيجابيات الاستقرار الأمني الذي تنعم به البلاد، ويمنع استفادتها من مفعوله على الصعيد السياحي والاستثماري. وبالطبع هناك جهات عديدة مستعدة للنفخ في حديث مثل هذا، وتسويقه على أوسع نطاق ممكن.
3/ أن المصلحة الوطنية العليا تقتضي قبل أن نضع أي حساب للقوى الخارجية، ضبط المعاملات الحسابية الداخلية. فالسياسة الخارجية تغدو مجرد ترف إذا لم تسند بدعم شعبي داخلي واسع. والحال أن سلوك النخب الجاثمة على الساحة ينفر ولا يحمس، خاصة في غياب أي منطق للخلافات القائمة. فالأشخاص الذين يرتبط بهم هذا البلوكاج موجودون في نفس قارب حكومة تصريف الأعمال. فهم حلفاء في الراهن، فلماذا يختلفون عن القادم ؟
قديما قيل في المغرب لا تستغرب، والمرجو ألا تتحول الغرابة التي نعيشها الآن إلى شيء معتاد ومألوف، كما تجسدت في الأعمال الروائية والقصصية لفرانز كافكا .