محمد عبروق العلمي.. رحيل مناضل وطني حيَّر جهابدة الموساد الإسرائيلي

محمد عبروق العلمي.. رحيل مناضل وطني حيَّر جهابدة الموساد الإسرائيلي

غصن آخر من أغصان شجرة التحرر الوطني والعربي والأممي يغادر هذا العالم في صمت. يتعلق الأمر بالمناضل محمد عبروق العلمي أو "عيسى البغدادي" الإسم الحركي الذي حمله لمدة قاربت نصف قرن من الزمان.

إنه أحد رموز المقاومة المغربية المسلحة إبان الهيمنة الاستعمارية الفرنسية ببلادنا، كان ضمن خلية للمقاومة بمنطقة الرباط، واشتهر بمشاركته الأساسية في تمكين مجموعة من رموز المقاومة المسلحة المعتقلين في السجن المركزي بالقنيطرة من الهروب في عملية دوّخت السلطات الاستعمارية حينها، وكان ضمن المجموعة المجاهد الكبير محمد الفقيه البصري والمناضلان عبد الفتاح سباطة وعمرو العطاوي وآخرون. وكان الراحل عبروق مكلفا بتدبر أمر مفتاح السجن الذي حصل عليه بنجاح. ورغم أن قوات الاحتلال الفرنسي أعادت إلقاء القبض عليه لكن المجموعة كانت قد تفرقت في أرجاء الوطن، ليبقى معتقلا حتى فجر 1956 (كان ضمن خلية للمقاومة حُكم على مجموعة من أعضائها بالإعدام مثل: الحسين الزعري – عبد الرحمان الشرقاوي – المعلم حمو الوزكيتي – محمد الجوهري – مصطفى كديرة وعباس المرابط الزموري).

ليكون من أنشط الشباب في حزب الاستقلال مقربا من الشهيد المهدي بنبركة ورجل ثقته. وبعد تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان ضمن طلائعه الأولى. وعقب اشتداد قمع نظام الحسن الثاني للحركة الوطنية والديموقراطية في المغرب غادر إلى الجزائر حيث عاش هناك ضمن مجموعة من اللاجئين المغاربة تحت مسؤولية المجاهد محمد بنسعيد أيت يدر (مثلما كان صديقا للمرحوم محمد باهي). وسنة 1964 قام كل من الشهيد المهدي بنبركة والمجاهد محمد الفقيه البصري ومحمد بنسعيد أيت يدر بابتعاثه إلى بلغراد في عصر جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الفيدرالية لدراسة العلوم الاجتماعية في جامعتها. وكان في تلك الفترة رفيقا لشاب مغربي آخر يدرس هناك هو الدكتور محمد علي الطود ابن مدينة القصر الكبير (المدير السابق للمدرسة المحمدية للمهندسين).

ليلتحق بعدها هناك ببعثة منظمة التحرير الفلسطينية ديبلوماسيا باسم حركي هو "عيسى البغدادي" (المولود في العراق) بحكم علاقاته الواسعة بالأوساط النضالية والثورية هناك وفي عموم أوروبا الشرقية وقتها، حيث واجه باقتدار كبير تغلغل بعض عملاء الحركة الصهيونية في رابطة الشيوعيين اليوغوسلاف، مما جعله يلعب دورا كبيرا لصالح القضية الفلسطينية وقضايا التحرر العربي.

وقد قضى هناك حوالي 50 سنة لا يعرف أحد مصيره حتى عاد إلى بلده بأوراق سفر ديبلوماسية فلسطينية سنة 2013.

قصة هذا الرجل ورحلته النضالية أيضا تستحق أن تحكى فعلا.

وبعد مرور نصف قرن على مغادرته للمغرب، وانقطاع أخباره بحكم المهام التي كان يمارسها، عاد إلى الوطن للقاء عائلته ومن تبقى من رفاق النضال بالمغرب يوم 18 مايو 2013.

التقيت الرجل أكثر من مرة، فكان محافظا على نباهته الأمنية وحذره المفرط، بما ينبئ أن الرجل مر من تجربة نضالية تحتاج إلى تسليط الضوء عليها. وهي التجربة التي وصلت إلى حدود عمل الموساد الصهيوني على تجنيد زوجته اليوغوسلافية للعمل معهم، لولا أنها كانت إحدى العاملات بقناعة من أجل القضية الفلسطينية.

واقعتان لهما علاقة بالمناضل محمد عبروق بعد رجوعه للمغرب، لا يمكن نسيانهما؛ الأولى حين أخذته من بيته لزيارة الأستاذة زهور العلوي (رحمها الله) دون أن أخبرها بمن يكون الضيف معي، وبمجرد مشاهدته صاحت بصوت مرتفع "أليس المناضل عبروق أنت؟" (بلُغتها العربية المجلجلة)، فكانت مفاجأتي كبيرة، لكن مفاجأة المرحوم عبروق حينها كانت أكبر!.

وفي واقعة أخرى أخذته لزيارة بيت المجاهد محمد بنسعيد أيت يدر بالبيضاء دون أن أخبرصاحب البيت بالشخص الذي يرافقني، بعد فراق دام 50 سنة، ليخاطبه السي بنسعيد بمجرد ما رآه "أهلا بالسي محمد عبروق"، طبعا أترك لكم تصور هكذا مشهد. ليطلب منا السي بنسعيد بضع دقائق، قبل أن يعود إلينا بصورة للمناضل عبروق أثناء تواجده لاجئا بالديار الجزائرية، حيث تحولت الأجواء إلى حديث من الذكريات كان ممعا بكل المقاييس.

فِراسة الصادقين من المناضلين لا يمكن أن تخيب حقا.

عانى الراحل الأمرّيْن بعد رجوعه للمغرب، حيث لم يقم المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالواجب تجاهه، تاركا إياه يواجه وضعا صعبا على مستوى وضعية وثائقه القانونية أو على المستوى المادي والاجتماعي، ليعيش ظروفا قاسية براتب تقاعد لم يكن يتجاوز 400 (بالحروف: أربعمائة) درهم، شاهدا على حيتان تنهب بلادا ساهم في تحريرها بالسلاح وبسنين من عمره في السجن، قبل أن يعرف حياة لامتناهية من المنافي.

خلف الراحل ثلاثة أبناء (ابنا وبنتين). رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه وألهم ذويه الصبر والسلوان.