ما إن تم الدخول إلى أحد المقاهي الواقعة على تراب عمالة بنمسيك بمدينة الدار البيضاء، حتى أثار الانتباه شابة ممتلئة البنية حسب ما تقتضيه الحاجة لمثل هذا النوع من المهن، شعرها منسدل على ظهرها، بلباس يكشف كافة تضاريس مفاتنها، ومنه سروال ملتصق بجلدها، وقميص أبيض شفاف يظهر أكثر ما يخفي من صدرها. أما وجهها فلم تحرمه من تبرج علني قوامه أحمر الشفاه وتلوينات مساحيق فوق العين، فضلا عن خطين مرسومين بقلم أسود مكان الحاجبين. هذا في الحين الذي لا يخطئ عطرها القوي أنف كل من اقترب منها. هكذا تعرفت "الوطن الآن" سمية، البالغة 31 سنة، والتي كانت في حديث مع أحد الزبائن لإقناعه كون ما طلبه من سجائر منها أربعة وليس ثلاثة كما أصر. وهو التجاذب الذي انتهى بتدخل صاحب المقهى الذي رجح كفة الزبون تفاديا لأي تطور خلافي محتمل، كما قال للنادلة بعد انصراف المتنازع معها. ومن هذا الحادث استُهل السؤال حول ما إذا كان يعد مجرد استثناء أم نموذجا فقط لمثيله من المشاكل اليومية. فكان الرد: "يمكن أن تعتبر ما حصل قبل قليل أهون المشاكل التي أصادفها كل يوم، إلى درجة أني أصبحت على يقين تام بضرورة وقوع اصطدام ما مع زبون أو أكثر قبل مغادرتي المقهى. ولذلك كان علي تغيير الكثير من طباعي مع الاحتفاظ بدم بارد حتى وإن تم استفزازي بكلام ما أو حركة معيبة". وفيما أكدت على أن المدة الفاصلة بين دخولها الميدان واليوم تقارب الخمس سنوات، قضت منها سنة ونصف بتلك المقهى، أقرت بأن أشد ما يجبرها على تحمل كل تلك المعاناة هو ظروف أسرتها الاجتماعية، والتي في حاجة ملحة لأجرتها من أجل تغطية ضروريات الحياة. مع أن هذا الأجر، وفق تعبيرها، "يالاه كيخلص الضو والماء. وكيعاون في واجب الكراء"، قبل أن تزيد بأنه ورغم ما تبذله من جهد يمتد لنحو 10 ساعات، فإنها لا تستفيد من أي حقوق كما هو حال التعويض أيام الأعياد أو عند المرض. بل الأكثر من ذلك، تتأسف، تعيش في كل لحظة رهبة الاستغناء عن خدماتها إذا ما قرر صاحب المقهى ذلك مثل ما وقع لها في العمل السابق، إذ وبمجرد أن أصيبت بنزلة برد ألزمتها الفراش لستة أيام، أبلغت بخبر تعويضها بفتاة أخرى من غير أي مراعاة لوضعها.
وإذا كان هذا هو حال سمية، فإن وضع كوثر، البالغة 29 سنة، لا يقل تأزما. إذ ما إن أثير الحديث عن العائد المادي حتى انفجرت مشتكية بالقول: "لا أحب صراحة تكرار ما قلته مرارا لمعارفي، لكن أرى من المفيد أن يعلم القراء بأن أجري الشهري معي الكثير من الزميلات لا يتعدى مبلغ 800 درهم، أدبر بها مصاريف النقل والأكل وشراء بعض لوازمي الخصوصية". وتشير بعد التساؤل حول قيمة ما تربحه من "بوربوار"، إلى أن الأخير يتراوح ما بين 40 و70 درهما في اليوم الواحد. وكيفما كان مجموع هذا الدخل، تستدرك كوثر، فإنه لا يساوي أضعف النسب من التضحيات التي تقدمها في سبيل ضمان السير العادي للمقهى. إذ لا تنحصر مهامها في خدمة الزبناء كما قد يظن البعض، وإنما يتعداه إلى المساعدة في تنظيف الأرضية وجمع الكراسي أو بسطها حسب توقيت العمل، كما تضطر إلى تعويض زميلتها أحيانا بالاشتغال من السادسة صباحا إلى العاشرة ليلا. والمؤلم، وفق المتحدثة دائما، غياب أي اعتراف بكل تلك المجهودات الإضافية. وحين وصل الحوار إلى حيثية طبيعة النظرة التي تقابل بها إن من طرف المجتمع عموما أو الزبائن على وجه التحديد، أخرجت تنهيدة مليئة بالكثير من معاني السخط، وهي تقول: "لو أني كنت أولي اهتماما لما يحاصرني من نظرات لوجدتني الآن في بيتنا. لأنه يصعب حقا نقل حجم المواجع التي يتسبب لي فيها الناس انطلاقا من أقاربي"، وتذكر بأنها صارت تتحاشى لقاء الكثير من هؤلاء "الفضوليين" تبعا لطبيعة كلامهم الجارح وإن أتى بمفردات منمقة. علما، تفيد، أن مغزى تلك التعليقات تصب جميعها في أن عملها يأتي من قبيل العمل المشبوه في الحانات والملاهي الليلة "أما الزبائن فتلك حكاية أخرى ولا تفترق عما تعامل به بائعات الهوى. بحيث أكاد أقول بأن كل من يراك لا يجد حرجا في قصفك بنظرات التحرش".
ويا ليت الأمر يقف عند النظرات، تشدد سمية، وإنما يتجاوزه إلى التلفظ بعبارات خادشة ومهينة تعطي الانطباع وكأنهم على يقين تام بأنها "خارجة الطريق"، حسب تعبيرها. لتؤكد بابتسامة محتشمة أن هناك من يأتي ومعه ورقة بها رقم هاتفه يقدمها لها مع مقابل ما طلبه من مشروب "لو بقيت كنجمع دوك الوريقات اللي فيهم نوامر التليفونات كون درت منهم جبل". وفي هذا السياق، لم نخف هذه النادلة واقعة بقدر طرافتها فإنها توقظ شتى دواعي التفكير في ما يروج ببعض الأذهان. بحيث "بعد أن داومت الاشتغال بإحدى المقاهي لفترة سنتين، انتقلت للعمل بمقهي ثانية. وعلى الرغم من المسافة الطويلة التي تفصل بينهما فوجئت بقدوم بعض الشباب. منهم من اعترف لي بكوني السبب في تغيير المقهى، ومنهم من ظل يكتم السر وإن كان مكشوفا".