مصطفى الغديري، أستاذ باحث
المخزن غرس الذعر والخوف في النخب الريفية لردم كل ما له صلة بالريف
* تعيش منطقة الريف احتقانا غير مسبوق منذ وفاة بائع السمك محسن فكري وما تلا ذلك من احتجاجات متتالية ضد ما سمي بالحكرة والتهميش. ما الذي غذى الاحتجاج بالريف أكثر من المناطق الأخرى، علما أن التهميش لا يقتصر على الحسيمة والناضور وتمسمان والدريوش وغيرها من مدن الريف؟
- صحيح أن هذ الاحتقان غير مسبوق في ظاهره، ولكن في جوهره سبق احتقان أكبر من هذا الذي شاهدناه ونشاهده في هذه الأيام في الريف وخارجه، والسبب في الفرق بينهما هو وجود هامش مهم من الحرية في التعبير عن الواقع المؤلم، في وقتنا الحاضر كما هو واضح في حادثة وفاة المرحوم الشاب محسن فكري لا لشيء إلا لأنه قرر استخلاص لقمة العيش من عرق الجبين، بدل الالتجاء إلى السرقة والتهريب، كما يفعل الآخرون. وحينما نقول هذا فلنا أدلة على ذلك في الواقعة التي جرت في مدينة الحسيمة ذاتها حين احترق أو اًحترِقَ في وكالة بنكية أربعة من خيرة شباب المنطقة، ومازالت نتائج البحث غير مقنعة لحد الآن. وهل هناك من حكرة وتهميش لمدينة مغربية فوق ما شاهدته الحسيمة مند استقلال المغرب؟ فهل نتائج البحث عن المختطفين والمغتالين من أمثال حدو أقشيش وغيره مما وقع في سنوات الرصاص، وبالأخص في سنة 1959 تم فيها جبر الضرر، أو ما وقع من دفن جماعي لأبناء الناظور في مقبرة جماعية اكتشفت حين إزيلت الكمامات على الأفواه!!....
* المغرب أنجز المصالحة لطي سنوات الرصاص وجبر ضرر المناطق المعنية (الريف، زاكورة، ورزازات، خنيفرة، الراشيدية، فكيك، الحي المحمدي بالبيضاء...إلخ.) لكن يبدو من خلال مسيرات الحسيمة أن البعض لم يتردد في رفع شعارات المرحلة السابقة من قبيل أن «الريف مهمل ويتم الانتقام منه». هل في نظرك هذه المظلومية لها ما يسندها عمليا كسياسة عامة للدولة أم هي مزايدات سياسية أم هي موضة؟
- إنها ليست مزايدة سياسية ولا موضة في الريف، وإنما هو تعبير عن الواقع المؤلم. ومن عاش في الريف، سواء في الحسيمة أو في الناظور أو الدريوش، سيجد بونا شاسعا بين هذه المناطق والمناطق الأخرى من المغرب في جميع المعاملات الإدارية، بما في ذلك الحصول على نسخة من الازدياد من الحالة المدنية أو الحصول على شهادة إدارية للسكنى أو للعزوبة أو غيرها... فمن الذي خلق هذا البون؟ أوليست السلطات الإدارية على أشكالها؟ أما جبر الضرر الذي تم بعد إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الأنسان في الريف، فلم يأت أكله لسبب بسيط وهو أن التدخلات الإدارية أنصفت بعض المتضررين وأبقت الآخرين على ضررهم. ولا يمكن مقارنة ما تضرر به الريف، وبالأخص إقليم الحسيمة، بالأقاليم الأخرى؛ إذ ما زال شهود عيان من الجنود الذين حضروا الهجوم على الريف في أحداث 1959 يحكون وقائع التصفية لأبناء الريف لم تقع في الصراع الإثني الذي شاهدته مختلف المناطق الإفريقية.. فهل تم جبر ضرر المتضررين من الرجال والنساء والأطفال؟ وبالنسبة للشعارات التي رفعت في مسيرات الاحتجاج فهي حالات معزولة لبعض الشباب ناتجة عن الغضب بسبب الحكرة والإهانة، وما حدث للمرحوم محسن فكري فهي النقطة التي أفاضت الإناء، مع أن الإناء كان ممتلئا. كيف يفسر القارئ نداء رئيس حزب بصدد تشكيل الحكومة للمنتمين لحزبه بعدم الخروج في المظاهرات الاحتجاجية؟!
* هناك زعامات ريفية عديدة تحتل المشهد السياسي والحزبي والجمعوي ببلادنا، وهي الزعامات التي تتهم بأنها قطعت الجسور مع المجتمع المحلي بالمنطقة. هل تشاطر الذين يقولون أن الريف يعيش يتما في التمثيلية السياسية والحزبية مما جعل بعض الاشخاص يحتلون صدارة الأحداث منذ مقتل فكري ليحلوا محل الزعامات الريفية القديمة؟
- أي زعامة تتحدث عنها في الريف؟ وهل هناك زعامة بمفهومها الحقيقي؟ لقد تولى العديد من نخب الريف مناصب سامية (مدنية وأمنية وعسكرية)، ومع ذلك لا نلاحظ بصماتهم عبر جر جزء من المنافع العمومية بالمنطقة، عكس الحال بالنسبة لنخب المناطق الأخرى (شرق+ فاس+ سوس…إلخ) كيف تفسر جحود النخب الريفية تجاه مناطقهم؟ نعم، لقد كان هناك أطر من أبناء الريف في مختلف المناصب السامية، المدنية منها والعسكرية. ولكن للأسف كان المخزن قد غرس فيهم الذعر والخوف من ذكر كل ما له صلة بالريف. حتى إن الكثير منهم كان يوصي العاملين بديوانه عدم استقبال أي ريفي طلب المقابلة. بل صار الخوف يجري في دمهم جري الأكسجين. ويكفي أن تعلم أن بعضهم، إن لم أقل أغلبهم، كانوا يرفضون التحدث بالأمازيغية خوفا من أن يتهم بأنه ريفي، كأن الانتماء إلى الريف تهمة!! وأذكر أن أحد المسؤولين الكبار قد زار مدينة الناظور - وهو منها - على إثر أحداث 1984، تلك التي سميت بعام المطالبة بالدقيق، بدل أن يواسي المقهورين ممن استشهد أبناؤهم أو سيقوا إلى سجن وادي لاو، قام يخطب من شرفة العمالة يصب جام غضبه على أبناء الإقليم، يهددهم بمزيد من العقاب إن لم تهدأ روعتهم وتخلوا عن الاحتجاج. هذا نموذج من أولئك الذين دار حولهم السؤال!! ولنا أمثلة في هذه الأيام. قد تتساءل معي أين اختبأ ممثل الإقليم أو أقاليم الريف خلال هذه المظاهرات؟!، هل لاحت لأحدنا صورة برلماني من المنطقة وهو يحاول التهدئة أو الدفاع عن الإقليم مما جرى؟! فالكثير من هؤلاء لا يظهرون إلا وقت استجداء الأصوات من المواطنين في موسم الانتخابات، وكم من مرة نسمع صوت ممثلي الريف؟ وكم هي الأصوات التي نسمع لها باستمرار؟ بل هناك من لم يسمع صوته قط على مدى عهدة نيابية أو أكثر؟ وربما لا تظهر صورته إلا يوم الدعاية للانتخابات، أو يوم الافتتاح للسنة لنيابية في الجمعة الأول من شهر أكتوبر. أي زعامة سنتحدث عنها، أم أن الزعامة تتمثل في البرلمانية التي نعتت أبناء الريف بالأوباش خلال المظاهرة السلمية الرائعة التي عبر عنها أبناء الريف!! ثم عادت لتسجل اعتذارا على صفحة موقعها لتقول بأنها ريفية حفيدة عبد الكريم الخطابي، ليصدق عليها المثل: الاعتذار أقبح من الزلة!!! علما بأن المظاهرات التي قام بها أبناء الريف شهد لها العالم على حضاريتها في هذه الأيام.
* الدولة انفقت أزيد من 24 مليار درهم على مدن الشمال في العقد الاخير دون ان تهدأ المنطقة الممتدة من وجدة إلى طنجة (خلايا إرهابية، قلاقل اجتماعية، تهريب...إلخ.) ما هو تصورك لنزع فتيل الاحتقان بمدن الشمال؟
- لا بد من وضع هذا الاستثمار في إطاره التاريخي والجغرافي والإداري لتتبين لنا نتائج الاستثمار لهذه الملايير، إن صح ذلك؟ فبالنسبة للإطار الجغرافي لا بد أن نعلم أن مساحة الجهة الشمالية من المغرب تعادل ما يقرب أو يفوق ضعف مساحة دول البنلوكس مجتمعة (بلجيكا وهولاندا، ولوكسبورغ)، وأغلب أراضيها كتل من الهضاب والجبال، ولا تتعدى المساحة الصالحة للزراعة الثلث منها، ولم تكن تتوافر إلى عهد قريب على أبسط البنى التحية، من طرق وإنارة ومنشآت فنية لتصفية المياه العادمة التي تسيل من المجاري. والطريق الوحيد الذي يعتبر الشريان المغذي للمنطقة هو الطريق الساحلي الذي تم تدشين جزء منه منذ بضع سنوات. أما الجزء الآخر فلم ينطلق فيه السير إلا منذ سنوات معدودة، وأصبح مقبرة لحوادث السير في فصل الشتاء. أما الإطار التاريخي فينبغي أن نعلم أن قدَرَ المنطقة تسلط عليها الاستعمار الإسباني الجائع الذي أتى على الأخضر واليابس، فلم تسلم منه حتى نبات السدرة الشوكي الذي قام الإسبان بقطعه وحمله إلى إسبانيا ليستغل في الأفران لطهي الخبر. ويكفي أن نعلم أن الاستعمار الإسباني الذي جثم على المنطقة مدة نصف قرن من الزمن، لم يترك وراءه عند الانسحاب الجزئي منها إلا آثار الثكنات التي بدت للعيان كأنها آثار للنؤي، بعد أن سحبت من فوقها قطع من القصدير والزنك. كما أن هذا الاستعمار الغاشم خلف وراءه نسبة الأمية تتعدى 95 في المائة من الساكنة التي بقيت عمن هُجّر من منازلها وقراها. كما أن الموت قد حصد أكثر أفراد العائلة في الحرب الأهلية الإسبانية، تلك التي أودت بربع مليون من الموتى والمعطوبين والمفقودين من أبنائها في حرب لا قبل لهم بها. وحين جاء الاستقلال الناقص كانت التركة ثقيلة على المنطقة من الجياع والعراة والمظلومين ومعطوبي الحرب. أما الإطار الإداري، فيشهد التاريخ أن المخزن المغربي منذ الاستقلال سلط على المنطقة الشمالية المسؤولين ممن لا ضمير لهم، فغرسوا فيها جميع الأمراض الاجتماعية من تفقير وتجويع وإشاعة للنهب والرشوة. ولعل ما فعل أوفقير وزبانيته في حق الريف والريفيين وما قام به السي إدريس وأزلامه في حق المنطقة ذاتها يعتبر أبشع نموذج يذكره أبناء الريف. وسيستحضره التاريخ المعاصر. وما زالت المنطقة تؤدي ضريبة مخلفات هؤلاء وأمثالهم. والمسؤولون من المجلس الوطني لحقوق الإنسان يصرحون باستمرار بأن جبر الضرر لم يتم بعد في الريف وفي حق الريفيين.
إذن الضريبة ثقيلة على مدى ما يزيد على نصف قرن، ولا يمكن لـ 240 مليار (إن استثمر هذا المقدار فعلا في شمال المغرب) أن يمسح ما ارتكب في حق هذه المنطقة التي تمثل جزءا هاما من المغرب، والتي كان لها دور ريادي في المقاومة وتحرير الوطن من الاستعمارين الغاشمين. ويكفي أن نعلم أن ضحايا الكوارث بإقليم الحسيمة لم يعوض فيها كثير من السكان بعد، فكيف تريد من هؤلاء أن يتوقفوا على الاحتجاج أو أن يكونوا حلفاء للسلطات العمومية، وهي التي ساهمت في كل الأمراض التي يعرفها الريف؟ أليس مطلب أبناء الريف من نقل رفات البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى الوطن مشروعا بل هو واجب؟ لماذا لم يستجب بعد لهذا المطلب الشعبي والوطني لدفن رفاته في مسقط رأسه؟ فلماذا يرعب ذكر الخطابي كثيرا من المسؤولين؟
أما حالات الإرهاب التي ظهرت في بعض مدن الشمال ظهرت أيضا في مختلف المدن المغربية في وسطها وجنوبها وشمالها على حد سواء. لعل الأرقام التي تصدر عن المندوبية السامية من العاطلين ومن حملة الشهادات العليا والمتوسطة يمكن أن تحدد أسباب الاحتجاجات، يضاف إليها عنصر الحكرة التي تسلطت على شمال المغرب.
عبد الكريم الإدريسي، فاعل مدني
احتجاجنا ليس عرقيا أو انفصاليا، وعقيدة الدولة لم تتغير اتجاه الريف
* كفاعل مدني ماهي قرائتك للحراك الإجتماعي الذي يشهده إقليم الحسيمة منذ مقتل المرحوم محسن فكري؟
- الإحتجاجات التي تشهدها منطقة الريف تحصيل حاصل لنضالات الجماهير الشعبية على مستوى الريف والتي ساهمت فيها مجموعة من الفعاليت المدنية بالمدينة و الخارج منذ 1958-1959. ولكن منذ الجريمة البشعة التي راح ضحيتها المرحوم محسن فكري تزايدت الاحتجاجات والتي شاركت فيها مختلف الفئات الاجتماعية بشكل أوسع، والتي عبرت عن الغضب ازاء الوضع الكارثي بالريف والمغرب عامة.
* لكن لماذا لم تتحركوا قبل مقتل محسن فكري للتنديد بالفساد الذي تتحدثون عنه؟
- لقد سبق ان تحركنا بدق ناقوس الخطر ,كما ان هناك اطارات اخرى تنبهت الى الوضع الكارثي الذي يعيشه كل القطاعات و خاصة قطاع الصيد البحري ، فضلا عن ذلك هناك جمعيات في قطاع الصيد التقليدي والتي كانت دائما تبعث بمراسلات في هذا الشأن الى الغرفة المتوسطية للصيد البحري بطنجة وكذا الى وزارة الصيد البحري معبرة عن استنكارها للوضع، ولكن السلطات كانت دائما بجانب لوبيات قطاع الصيد البحري.
* بالإضافة الى ملف الصيد البحري، ماهي أبرز الملفات التي طرحت بقوة في الإحتجاجات التي عمت شوارع الحسيمة؟
- طبعا.. رفعت عدة مطالب في المعركة التي أطلق عليها «معركة الحكَرة» التي رفعت فيها شعارات تطالب بمعاقبة الجناة في قضية مقتل شهيد الكرامة محسن فكري، إلى جانب مطالب اجتماعية، بالإضافة إلى التعبير عن الانتماء الهوياتي لمنطقة الريف.
* وماهي هذه الإشكالات الإجتماعية؟
- إن منطقة الريف تعيش ركودا اقتصاديا خطيرا، وبالخصوص بعد التقسيم الجهوي الجديد الذي لم يراع الخصوصيات، والذي أثر بشكل واضح، بالإضافة إلى الآفاق المظلمة لشباب المدينة (البطالة - المخدرات....) وصعوبة الولوج إلى التشغيل للشباب حاملي الشواهد والمشاكل القطاعبة الاخرى (الصحة، التعليم) والعزلة التي تعيشها المنطقة برا وبحرا وجوا.
* هل عقدتم لقاءات للحوار مع السلطات المحلية؟ وهل كان هناك تجاوب من قبل المسؤولين مع مطالبكم؟
- لحد الآن لم نعقد أية لقاءات للحوار مع السلطات المحلية، حيث لم يتم لحد الساعة استدعاء أي إطار من داخل المدينة كما لم يتم استدعاء اللجنة المنظمة للمسيرة التي نظمت البارحة (أجري الحوار يوم السبت 5 نونبر 2016 - المحرر)، ولكن كانت هناك متابعات من قبل وسائل الإعلام المحلية والوطنية والأجنبية.
* وماهو سقف احتجاجاتكم بالإقليم؟
- سقف هذه الاحتجاجات مطالب اجتماعية واقتصادية بحثة، رغم تركيز بعض المنابر الإعلامية على الحديث عن «الفتنة». فالمتظاهرون واعون بحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقهم. والدليل على هذا هو حسن التأطير والتنظيم الذي عرفته مسيرة يوم الجمعة 4 نونبر، حيث شكل المتظاهرون سلاسل بشرية لحماية الممتلكات العامة والخاصة، فالمسيرة كانت سلمية، وتم التركيز فيها على المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي تهم مصلحة المواطن بالإقليم. وما يتم الترويج له من طرف البعض بخصوص انزياح الاحتجاجات عن مطالبها الاجتماعية الى رفع شعارات عنصرية أو عرقية تمس بوحدة الوطن لا أساس له من الصحة.
* احتجاجاتكم ارتبطت بقضية مقتل محسن فكري، فهل اذا تم طي الملف من طرف القضاء، هل سيعود المتظاهرون الى البيوت أم سيفضلون البقاء في الشارع؟
- في اعتقادي أن الاحتجاجات ستبقى في الشارع، فكما قلت لك فإن النقطة التي أفاضت الكأس هي قضية مقتل محسن فكري، فهي التي عجلت بخروج المواطنين للشارع للتعبير عن غضبها بسبب عدم تلبية المطالب التي رفعت منذ حراك 20 فبراير 2011، في ما يخص تنمية الإقليم، الصحة، التعليم، إلى جانب عدم الكشف عن حقيقة شهداء 20 فبراير 2011، وهو ما يؤكد أن سياسة الدولة لم تتغير في التعاطي مع الإقليم.
* بالموازاة مع الاحتجاجات التي عرفتها الحسيمة عرفت العديد من المدن المغربية مسيرات احتجاجية للتضامن مع قضية مقتل محسن فكري، لكن الملاحظ هو ارتفاع بعض الأصوات في محاولة لتحوير مسار هذه الاحتجاجات وتحويلها إلى صراع عرقي بين ساكنة الريف ومدن الداخل، مارأيك؟
- ليس هناك أي صراع عرقي.. والمحاولات التي تتحدثون عنها ترتبط بحسابات سياسية لا أقل ولا أكثر.. فجوهر الصراع هو صراع من أجل مطالب اجتماعية واقتصادية نتقاسمها مع جميع المناطق المغربية، وكما قلت قبل قليل فوعي النشطاء ووعي ساكنة المنطقة بعدم تحوير المعركة ذات الصبغة الاجتماعية إلى معركة تخدم أجندات داخلية أو خارجية. فالمتظاهرون رفعوا شعارات تركز على المطالبة بتحسين الخدمات الإجتماعية وصيانة كرامة المواطنين.
* وماذا عن رفع أعلام «جمهورية الريف»، هل يمكن إدراجها ضمن سياق تحوير معارككم عن سكتها الصحيحة؟
- المتظاهرون رفعوا علم «جمهورية الريف» باعتباره رمز المقاومة والأمر لا يحمل أية دلالات طائفية أو انفصالية، فالمواطنون حملوا هذه الأعلام بكل عفوية باعتبارها جزءا من تاريخ منطقة الريف وتاريخ الأجداد وكتعبير عن التميز وليست لها أية أغراض انفصالية، بل بالعكس تماما فالناس واعون بتجنب تكرار التجارب السابقة التي قد يستغلها البعض لنسف الاحتجاجات التي تعرفها المنطقة كما حدث في حراك 20 فبراير.
ناصر الزفزافي، ناشط مدني
الريف ليس هو العراق أو سوريا لتسميم المغرب بأجندات خارجية
* كيف تقرأ الاحتجاجات التي يعرفها إقليم الحسيمة منذ مقتل المرحوم محسن فكري؟
- أود الإشارة الى أن مقتل محسن فكري جاء نتاج الحكرة وسياسة منتهجة في منطقة الريف وفي باقي المدن المغربية.ويمكن القول أن مقتل محسن فكري هي النقطة التي أفاضت الكأس وجعلت كل هؤلاء المحتجين يخرجون للشارع من أجل التضامن معه وللتنديد بالحكرة التي يعاني منها المواطنون. وكما لاحظت فإن مسيرة يوم الجمعة 4نونبر2016 شاركت فيها مختلف الفئات الاجتماعية بمنطقة الريف الى جانب المسيرات التي عرفتها العديد من المدن المغربية. والحراك الذي تعرفه الحسيمة ليست له أية خلفيات أخرى خارجية بل إن خلفياته واضحة وهي تحقيق العدالة وتطبيق القوانين وإقرار العدالة الاجتماعية.
* لكن ألا ترى معي بأن المطالب المتعلقة برفع الحكرة والظلم، بالإضافة الى حديثكم الآن عن الفساد المستشري في ميناء الحسيمة كانت مطروحة قبل مقتل محسن فكري، فلماذا لم تخرجوا للتظاهر؟
- كنا دائما نطالب بسيادة العدل وتطبيق القوانين. وفيما يخص قضية الفساد المستشري في ميناء الحسيمة أو في باقي الموانئ المغربية هو واضح للجميع فهناك لوبيات تقف خلف الفساد المستشري وتبذل قصارى جهودها من أجل الاستحواذ على الميناء لضمان مآربها الشخصية، ولا يمكنني أن أجيبك عن سؤالك: لماذا لم تخرجوا للتظاهر قبل مقتل محسن فكري؟ فتراكمات ممارسات الحكرة لابد أن تفجر انتفاضة المواطنين في يوم من الأيام، وما مقتل محسن فكري إلا النقطة التي أفاضت الكأس كما قلت لك فالمواطن قد يتحمل الحكرة للمرة الأولى والثانية والثالثة لكن اذا استمرت معه بنفس المنهج فمن المؤكد أنه سينتفض في وجهك في يوم ما. وكما تعلم فمدينة الحسيمة تتوفر على مؤهلات حقيقية التي بإمكانها تحقيق الإنتعاش الإقتصادي ولكن بالرغم من ذلك فنحن نعاين تهميش ممنهج ضد هذه المنطقة والذي عجل بانتفاضة المواطنين. ويمكن ان أعطيك كمؤشر عن رداءة الوضع هو تنامي عمليات الانتحار بمنطقة الريف والتي طرحت العديد من علامات الاستفهام علما أن معظم الأشخاص الذين ينتحرون هم من فئة الشباب التي تعاني من غياب فرص الشغل، وتكابد الأمرين لضمان لقمة العيش لكنها تواجه بالباب المسدود، حيث كان المواطنون يترقبون في أية لحظة فرصة حقيقية للإقدام على حراك سلمي وحضاري تعبر من خلاله عن مواقفها ومطالبها، وأود توجيه رسالة من خلال منبركم، فهذا الحراك مطالبه واضحة جدا ولا يخدم أية أغراض أخرى.
* في هذا الإطار يروج حديث في بعض الأوساط عن «الفتنة» بالموازاة مع الاحتجاجات التي اندلعت بمقتل محسن فكري وهناك من يتحدث عن أجندات خارجية، فكيف تردون؟
- أولا خروجنا منذ اليوم الأول كان من أجل مطالب اجتماعية، وفعلا هناك بعض القوى الخارجية التي تحاول استغلال الأحداث في الدول من أجل الركوب عليها وتمرير بعض المغالطات للرأي العام العالمي، وأعطي مثال دولة الجزائر التي يقودها نظام الجنرالات الديكتاتوري والتي حاولت استغلال هذه الفرصة للركوب على الحدث. ونقول اليوم بصوت واحد في منطقة الريف لسنا العراق ولا سوريا ولا افغانستان حتى تمرروا سياساتكم، وبالتالي فخروج الناس من أجل هذا الحراك كان من أجل مطالب اجتماعية وليس من أجل ما يتم الترويج له، أما قضية حديث البعض عن «الفتنة». فهذا المصطلح استخدمه بعض الشيوخ والذين يقتاتون من سياسة المخزن للأسف الشديد من أجل حماية لوبيات المفسدين وضمان مراكمتهم للثروات، واليوم نقول إن الفتنة الحقيقية هي ممارسة الظلم بحق الفقير، الفتنة الحقيقية هي سرقة ثروات الضعفاء، الفتنة الحقيقية هي أن يرفع شعار دولة الحق والقانون وفي نفس الوقت يغيب فيها القانون ، الفتنة الحقيقية هي تصنيف المواطنين بدرجات، الفتنة الحقيقية هي عدم معاقبة المفسدين... فهذه هي الفتنة وليست الفتنة هي خروج للشارع لرفع مطالب مشروعة بمقتضى القانون والدستور.
* وماذا عن التحذيرات التي بدأت ترتفع من قبل بعض الفعاليات السياسية والتي تهم انزياح الاحتجاجات بمنطقة الريف عن أهدافها نحو صراعات ذات طابع عرقي أو إثني فهل تستحضرون هذا المعطى؟ وماذا عن رفع أعلام «جمهورية الريف» من طرف المتظاهرين؟
- طبعا.. نحن اليوم في حراكنا أعطينا درسا للعالم في قضية الخروج للشارع وفي حسن التنظيم في مسيرة ضمت الآلاف على غرار مسيرة الشموع التي شارك فيها ما يقارب 70 ألف مشارك، وهذا درس واضح جدا بأننا اليوم خرجنا من أجل التعبير عن مطالبنا المشروعة والتي هي مطالب اجتماعية بحتة وليس كما يروج البعض، بخصوص رفع أعلام «الجمهورية الريفية» التي أسسها محمد بن عبد الكريم الخطابي رضوان الله عليه، فالكثيرون من ركبوا على هذه القضية ومسألة أعلام «الجمهورية الريفية» هي جزء من تاريخنا ولا يمكن لأي كان أن ينكر علينا تاريخنا. هذه الأعلام لها دلالات تاريخية ومن يستفزهم رفع هذه الأعلام أقول لهم أنتم ضد هذا التاريخ وتحاربون هذا التاريخ لأنه كانت لكم يد في محاولة إقبار هذا التاريخ، ولسنا بحركة انفصالية كما يروج البعض، والشعارات واليافطات التي رفعت في هذه المسيرات ركزت على المطالب الاجتماعية، وهو ما شكل ضربة قاضية لهؤلاء الذين لم يعد بإمكانهم الحديث. ونحن نتحدى هؤلاء بالكشف لنا عن حقيقة انتماءاتهم السياسية.
* هل عقدتم لقاءات للحوار مع السلطات المحلية؟ وهل هناك تجاوب في هذا الإطار؟
- أؤكد أنه لحد الساعة ليس هناك أي لقاء مع السلطات المحلية، بل مجرد اجتماعات تهم بعض الجمعيات مع عامل الإقليم مما يؤكد أن المخزن لا يريد التفاوض ولا يريد الجلوس الى طاولة الحوار، واستمرارنا في تنظيم المسيرات سيتبث هذا المعطى. هذا من جهة، من جهة أخرى لا يحق للمخزن أن يجالس هذه الجمعيات التي لا تمثل هذا الحراك ولا تمثل الجماهير الشعبية التي نزلت الى الشارع من اجل وضع حد للفساد وتطالب بالحقوق.
* هذا يعني أن احتجاجاتكم ستستمر حتى ولو تم طي ملف المرحوم فكري؟ وماهو سقف مطالبكم؟
- قضية المرحوم فكري هي قضية الرأي العام المحلي والوطني والعالمي، ونحن في حراكنا اليوم نطالب بتطبيق القوانين الصارمة بحق كل من تورط في مقتل الشهيد البطل محسن فكري وتوفير ضمانات حقيقية لتطبيق القانون حتى وإن تم طي ملف محسن فكري حتى نضمن عدم تكرار ما حدث في حراك 20 فبراير..الشهداء راحوا ضحية المخزن وكذلك قضية المرحوم كريم أشقار وعدد من الإخوان الذين كانوا ضحية التعسفات والإعتقالات. أما في ما يخص سقف المطالب فلايمكن أن نحدده حاليا، حيث ستعقد اجتماعات بهذا الخصوص وسيتم الكشف عنها في خروجنا القريب إن شاء الله.
ذ. عبد الله ساعف، مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية
ربط الريف بالعمق الصحراوي عبر الأوطوروت سيخلق ارتعاشة وطنية
كان الأستاذ عبدالله ساعف، مدير مركز الدراسات والأبحات في العلوم الاجتماعية، حازما بشأن تداعيات ربط الريف بالعمق الصحراوي للمغرب مروراً بجبال الأطلس عبر أوطوروت جديدة، إذا اعتبر الربط حلاً لمشكل الاندماج الوطني. وفند أطروحة التقنوقراط القائمة على استمرار الحصار على سكان الريف والأطلس بمبرر أن الموارد المالية غير متوفرة، مستشهدا بالثورة التي أحدثها مشروع «المدار المتوسطي» الذي فاقت انعكاساته ماحققته إصلاحات قانونية وسياسية. واعتبر الطريق إحدى آليات صناعة الأمم.
* ما هي قراءتك لمشروع الربط الطرقي للحسيمة بطاطا، مرورا بفاس وخنيفرة وبني ملال وورزازات، بما يرمز له من تكسير لحاجز الريف والأطلس؟
- المشروع سيحقق بالتأكيد الاندماج الوطني، لأن المشروع لا يقتصر على بنية تحتية ومواصلات، بل ما ترمز له كلمة Communiquer من اتصال وربط، بل وتلحيم وتجميع وتكثيف النسيج بين الأفراد المكونين للأمة. وهذه في نظري أهم ميزة للمشروع إن تحقق، بحيث سيحل مشكلة الاندماج الوطني، لأن كثافة الطرق وكثافة الحركة وتعدد الفضاءات التي يلتقي فيها المواطنون والتي تسهل لقاءاتهم، تعد من الآليات الحديثة لصناعة الأمم. فعبر التاريخ نجد أن الرباط العرقي والجهوي والحميمية الوطنية تواجه صعوبات. ولنا في جبال أفغانستان كمثال عن وجود قطائع بين مجموعة بشرية معينة ومجموعات أخرى، وبالتالي يمكن للأمة أن تتجاوز ذلك وتبني نسيجا وطنيا إذا كانت هناك طرق. ومثال أفغانستان يصدق تعميمه على حالات كثيرة. أضف إلى ذلك أنه بعد احترام مجموعة من الشكليات من دفتر تحملات والإعلان عن طلب عروض.. إلخ، نجد أن الطريق بما تمثله من رباط للأمة وحزام لها وحلقات تواصل بين المجموعات البشرية تأخذ طابعا رمزيا لمركزيتها ولأهميتها، لأنها تحيي شعبا. فعادة ما تكون مناسبة لعمليات كبرى للتعبئة ولإشراك المواطنين في الأمر. وهنا أستحضر الطرق المؤسسة ببلادنا من قبيل «طريق الوحدة» التي كانت مصدرا لتعبئة شعبية واسعة. لكن من بعد أخذت الطرق طابعا مقاولاتيا وتقنيا وهندسيا وجردت من معناها كمصدر تلحيم للمجتمع.
* منذ الاستقلال إلى اليوم لم يعش المغرب أي ارتعاشة وطنية، اللهم حدث المسيرة الخضراء الذي عبأ المغاربة. ألا ترى أن إنجاز الأوطوروت بين الحسيمة وطاطا التي تخترق الريف والأطلس ستخلق ارتعاشة وطنية جديدة للمغاربة؟
- فعلا، نلاحظ غياب محطات للتعبئة الكبرى حول مشاريع من هذا الحجم والكيف. كانت هناك حالات سياسية، ولكنها حالات لن تعوض مشروعا يُبنى بمجهودات المجموعات البشرية...
* (مقاطعا) في عهد الاستعمار كان الجنيرال ليوطي يرغب في خلق محور طرقي مغاربي ينطلق من الدار البيضاء إلى تونس، إلا أنه اصطدم بمقاومة قوية لأبناء الأطلس بقيادة أحمد الحنصالي وحمو الزياني من جهة، واصطدم بالحاجز الطبيعي (الجبال)، مما جعله ينتقم ويحول كل المشاريع نحو المحور الأطلنتيكي بين القنيطرة والبيضاء. وللأسف المغرب المستقل ورث عن ليوطي هذه النظرة التحقيرية للتراب الوطني. ألم يحن الوقت لنتخلى عن هذه النظرة، أي المغرب النافع والمغرب غير النافع؟
- المشاريع الاستعمارية لم تكن تخضع لاعتبارات الاندماج الوطني، بل لاعتبارات استراتيجية أخرى.
* لماذا ترفض السلطات العمومية المغربية توحيد المغاربة عبر شق طريق تخترق الريف وجبال الأطلس؟
- هذا السؤال يفترض أن يجيب عنه الذين كانوا مسؤولين عن اتخاذ القرارات الأساسية في هذا الباب. وأنا شخصيا لما اكتشفت لأول مرة طريق الوحدة بوسط البلد من فاس إلى الحسيمة، تذكرت رفاقنا في منظمة العمل آنذاك الذين كانوا يأتون من الحسيمة ويقضون يومين في الطريق، ويا ليت الأمر يتوقف على ما يقضونه من وقت وما يصرفونه من مال لقطع الطريق.. لكن لما رأيت الطريق وأنا شاب اكتشفت أنهم كانوا يقومون بمغامرة حقيقية ليحضروا معنا الاجتماعات. من بعد استعملت هذه الطريق عدة مرات، وفي كل مرة كنت أتساءل كيف أن هذه المنطقة ظلت إلى حدود 2000 معزولة، إذ لم يتم فك العزلة عن الحسيمة إلا بفضل المدار السياحي المتوسطي الممتد نحو السعيدية (La rocade) حيث يعد هذا المدار ثورة.. وآثار المدار السياحي المتوسطي لا تقل أهمية عن الإصلاحات القانونية الكبرى التي باشرها المغرب في المدة الأخيرة. إذ أن آثارها يتجاوز في بعض الأحيان النتائج المتوخاة من الانتخابات أو إصلاحات مؤسساتية، لأنه مدار يربط بين حلقات أساسية في المجتمع.
* حول جدوى أوطوروت الحسيمة طاطا، هل هي قابلة للتنفيذ، مرورا بفاس وإفران وخنيفرة؟
- نعم. وهو مشروع جد مهم، ولا يمكن رفضه، بدليل أن سكان الريف (قبل إنجاز المدار المتوسطي) كان يسهل عليهم الذهاب إلى إسبانيا عوض التنقل داخل المغرب.
* ولكن كيف تفسر أن المسؤولين المغاربة لم يستشعروا أهمية هذا المحور الطرقي لتوحيد المغرب ويرفعون دائما شعار «قلة ذات اليد»؟
- تفسير الموضوع بتقصير في الموارد المالية غير مقنع، إذ لو اتخذ القرار السياسي، فإن هذه الصعوبات المالية ستصبح ثانوية ونسبية. فضلا عن ذلك أنا لا أومن بمن يقول إن هناك غضب الدولة تجاه هذه المناطق، إذ حينما تقول غضب فمعناه أن الدولة تركز كل جهودها بما فيها الوسائل القمعية على تلك المناطق، بل الأمر يتعين قراءته من زاوية التدبير والتفكير الاستراتيجي والتحكم في آليات الحكامة والأجهزة التنفيذية، وخاصة الناس الذين كانوا مسؤولين مباشرة عن البنية التحتية، خاصة وأني لا أترك مناسبة تمر دون أن أتساءل: لماذا بقي الريف والأطلس معزولين عن المغرب؟!
* ألا يمكن تفسير ذلك بكون الأطلس أنبت كل المتورطين في الانقلابات العسكرية ضد الحسن الثاني، وبكون الريف كان يحضن كل الذين كانوا ينازعونه في شرعيته كملك؟
- أبدا.. ففي رأيي هذا غير مقنع، وإلا كيف نفسر قرار قطع مناطق حساسة مثل هذه عن باقي البلاد. بالعكس هذا المبرر يجب أن يكون محفزا لتدمج هذه المناطق أكثر في النسيج الآخر المتحكم فيه بالبلاد. وهذه مجرد ذرائع يمسحها بعض التقنوقراط في السياسيين لتبرير فشلهم.
* إذا اتخذ القرار، وطلب منك إعطاء اسم لهذا المشروع الضخم «أوطوروت الحسيمة طاطا» فأي اسم ستختار: «أوطوروت التقدم»، «أوطوروت الأمل» أو «أوطوروت التوحيد»؟
- لماذا استعملت لفظة «أنا».. ولماذا لا تقول نحن.. ولماذا لا تقول: «آش يمكن نسميوها؟».
* لنعتمد لفظة «نحن».. أي اسم سنختار؟
- مشروع من هذا القبيل سنختار له اسما يعبر عن «الوحدة» و«الرباط الوطني» و«الالتحام الوطني».. شخصيا لن أبتعد عن هذه المسميات.
* في حالة ما إذا تذرعت الدولة بأنها لا تتوفر على الموارد المالية لإنجاز أوطوروت الحسيمة طاطا، هل يمكن أن نلجأ إلى اكتتاب وطني يساهم فيه المغاربة القادرين على تمويل المشروع لسد المنافذ على التقنوقراطيين واللوبيات التي لا ترغب في توحيد المغاربة من الريف إلى الصحراء؟
- لي القناعة أن المغاربة، الأغنياء منهم والفقراء، لن يترددوا في الاستجابة لمشروع من هذا الحجم. فالمغاربة كما أعرفهم لن يدخروا أي جهد للمساهمة في هذا المشروع إذا اتخذ القرار السياسي بشأنه.
الحبيب استاتي زين الدين، مؤلف أطروحة حول الحركات الاحتجاجية
الحركات الاحتجاجية أفقدت الأحزاب عصرها «الذهبي» ودور ها الوسائطي بين الشعب وصانعي القرار
* ناقشت منذ أسبوع بكلية الحقوق بمراكش أطروحة دكتوراه حول حركة 20 فبراير، ومن مكر أو حسن الصدف أن المناقشة تزامنت مع فورة الشارع المغربي وتناسل مجموعة من الاحتجاجات في مختلف المدن. فهل نحن بصدد حركة 20 فبراير جديدة ومنقّحة؟
- إذا استبعدنا الطبيعة السياسية لحركة 20 فبراير، وأخذنا بعين الاعتبار مختلف المطالب الاجتماعية التي تُعبِّر عنها هذه الاحتجاجات، فضلا عن طريقة تعبئتها وتنظيمها، والتعبيرات التي تبنتها، والشعارات التي رفعتها، يحق لنا القول إن دينامية الحركة لا زالت حاضرة، بصيغ جديدة، تستثمر التراكمات والتجارب الحاصلة في مجال الممارسة الاحتجاجية بالمغرب.ويلاحظ في هذا الإطار أن أربع مناسبات على سبيل المثال (احتجاجات طنجة، والطلبة الأطباء، والأساتذة المتربون، والحسيمة)، على اختلاف مضامينها والفاعلين فيها، تكشف وجود مجموعة من القواسم المشتركة بينها؛ أولا، يغيب عن هذه الحركات زعامة الفاعل السياسي أو النقابي. وهذا الأمر فسح المجال للشباب المتعلّم للتخلص من الخوف والتمرس على التفاوض والحوار مع ممثلي الحكومة دون وسطاء. ثانيا، شكّلت الإنترنيت الحاضن الرئيسي لهذه الاحتجاجات، لأن التعبئة جرت على «فايسبوك» و«تويتر» و«واتساب» و«يوتوب». فداخل هذه العوالم الافتراضية ناقش المحتجون مطالبهم، وتداولوا في مشروعيتها، وهيّأوا نفسيا المشاركين فيها لتعزيز حماستهم. بمعنى أنه تم إرجاء قرار النزول إلى أرض الواقع إلى أن نضجت فكرة الاحتجاج وعدالة هذه المطالب بسماء الفضاء الأزرق. ثالثا، استعارت هذه الاحتجاجات من الحركة شعارها المركزي المتمثل في المطالبة بـ«إسقاط» كل ما هو مرفوض وغير مرغوب فيه.
* عادة ما يتم تفسير المظاهرات المتعددة بدينامية مفتوحة في البلدان المتمدنة ودليل على أن الشارع ليس مؤمما على طريقة كوريا الشمالية. أين تموضع ما يجري بالمغرب حاليا من حراك اجتماعي؟ هل في خانة كوريا الشمالية أم في خانة دولة المؤسسات؟
- أعتقد أنه لا يستقيم أبدا وضع الحراك المغربي في خانة كوريا الشمالية، وما يعرفه مجالها العام من مراقبة وقمع ممنهجين، لاعتبارات متعددة، في مقدمتها التحولات المهمة التي يشهدها الفضاء العام ببلادنا، إذ منذ تشكيل الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين، في التسعينات، بدأت تظهر الإرهاصات الأولى لاستراتيجية استعمال الشارع العام، كمؤشر على انتقال السياسة من الفضاء التقليدي المحتكَر من قبل الفاعلين السياسيين إلى فضاء الاحتجاج غير التعاقدي، تزامنا مع ظهور أشكال جديدة من الاحتجاج، خلال السنوات الأربع لحكومة التناوب، قبل أن تنضم إليه مختلف شرائح المجتمع، بما فيها بعض الفئات التي كانت ممنوعة من النزول إلى الشارع، كنتيجة حتمية لعاملين رئيسيين؛ الأول، يهمّ كثافة الطلب الاجتماعي محدودية تجاوب السياسات العمومية معه، بالنظر، أساسا، إلى إكراه الموارد. والثاني، يتعلق بسياق التقدم النسبي لمؤشرات الحرية والانفتاح اللذين يطبعان الفضاء العمومي. وهي كلها مؤشرات تُظهر قدرة النظام السياسي على الانفتاح السياسي المتدرِّج، وتنظيم التنفيس الدوري المستمر، في إشارة واضحة إلى أن الحُكم، في المغرب، على خلاف العديد من الدول، يُمارَس على إيقاع الحديث الرسمي عن الإصلاحات والمشاريع الكبرى، وإعطاء إشارات في اتجاه المراجعة والتقويم وتصحيح الأخطاء وتغيير ما يحتاج إلى تغيير، في أفق تقوية المؤسسات. ولقد لفتت انتباهنا كيفية تحرك الذكاء الاستراتيجي للدولة سنة 2011، لاحتواء ومصاحبة موجة الحراك، وإعطاء مزيد من الاستقلالية والفعالية لمؤسسات الدولة، من قبيل:المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومجلس المنافسة، والهيئة المركزية لمكافحة الرشوة، والحرص على الرفع من مكانتها وتوسيع صلاحياتها من خلال دستور يوليوز 2011.
* المثير في الحراك الذي يشهده المغرب منذ مقتل بائع السمك محسن فكري، أن هذا الحراك جاء بعيد الانتخابات البرلمانية. إذ لم نعاين الأحزاب كوسائط اجتماعية تلعب دورها في التأطير ورعاية الاحتجاج؟
- إذا أخذنا بعين الاعتبار مختلف الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب في العقد الأخير، بما فيها دينامية 20 فبراير، والاحتجاجات الاجتماعية السلمية التي تلتها، وخاصة احتجاج سكان طنجة ضد شركة التدبير المفوَّض «أمانديس»، وتشبث الطلبة الأطباء بعدم العودة إلى مُدرَّجات الدراسة والتكوين إلى حين تراجع وزارة الصحة عن مسودة مشروع قانون «الخدمة الصحية الوطنية»، بالإضافة إلى مسيرة الأساتذة المتدربين التي تجاوز عدد المحتجين فيها عشرات الآلاف، وهو ما لم تَقْدِر النقابات ولا الأحزاب على جمعه في مسيرات مماثلة، رفضا لمرسومي وزارة التربية الوطنية، وأخيرا مجموع المسيرات التضامنية مع أسرة محسن فكري، وما رافقها من تنديد بثنائية الفساد و«الحُكْرَة»، ندرك مدى استقلالية هذه الحركات الاحتجاجية عن الأحزاب السياسية والنقابات، لدرجة يمكن معها القول إن هذه الأخيرة فقدت «عصرها الذهبي»، وعليها أن تتهيّأ للتأقلم مع وضع داخلي وإقليمي متوتر، تنامى فيه الاعتقاد بسياسة «الأداء»، وإلا ستظل محط نقد ملكي وشعبي بسبب عدم قدرتها على التأطير والتوسط بين الدولة والمحتجين. فلا يعقل أن يجد المحتجون أنفسهم، في أغلب الحالات، يخاطبون مبعوثي وزارة الداخلية على المستوى المركزي أو الجهـوي أو المحلي، في غياب شبه تام لوسطاء فاعلين (علماء، وبرلمانيين، وسياسيين، ونقابيين، وناشطين جمعويين،...) بإمكانهم أن ينقلوا مطالب المحتجين المشروعة إلى أصحاب القرار المعنيين.
* أمام تآكل دور الأحزاب والنقابات والجمعيات، هل يتجه المغرب نحو الظاهرة «البوديموسية» (نسبة لبوديموس) وبروز هيآت ميكروسكوبية مشتتة؟
- من جهة، يصعب التنبؤ بإمكانية اتجاه المغرب نحو هذه الظاهرة، ثم كيف لنا أن نقيم علاقة بين المغرب وإسبانيا، في الوقت الذي فرض فيه حزب «بوديموس»، الذي ظهر على أنقاض حركة «الغاضبين» التي تأثرت بتحولات الحراك العربي، نفسه كثالث قوة سياسية بعد نتائج الانتخابات التشريعية، كإعلان عن نهاية عقود من التناوب السياسي بين الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي، بينما ما ميّز الحراك في البلدان العربية، ومن ضمنها المغرب، هو صعود القوى الإسلامية. من جهة ثانية، قد أتفق معك حول بروز نماذج «ميكروسكوبية مشتتة»؛ تعبّر، في الظاهر، عن تزايد الوعي المجتمعي بضرورة التكتل للدفاع عن الحقوق، بطرق سلمية وحضارية، أكثر تنظيما وتعبئة؛ وتعكس، في العمق، عن ضعف التنمية والديمقراطية وهشاشة منظومة الوساطة، اللذين يسمحان بميلاد ظاهرة «الاحتجاج الفئوي» أو «المجتمع الجماهيري»، وفق تعبير «آلان تورين»، حيث أصبحت كل شريحة اجتماعية متكتلة في شكل «عشائر» تدافع عن كيانها ومصالحها الذاتية، باسم حـرية العيـش والتفـكـير وتنظيم أنفسهم على النحـو الـذي يـريدونه، بل والأدهى من ذلك أن يتخذ الاحتجاج، في بعض الحالات، صيغا سياسيوية وشعبوية.