لقد سادت هذه الوضعية منذ عقود، فتعمَّق تدنِّي المستوى الفكري للزعامات السياسية التي تتخوف من الفكر وأسئلته وتكرههما، فتم إقصاء المفكرين والمبدعين والمثقفين وأهل العلم والخبرة، وهذا ما جعل بلادنا تفتقر إلى رؤية تمكِّنها من رسم خطة للخروج من مأزقنا المؤسسي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي عبر تطوير حلول آنية للمشكلات العاجلة، وصياغة خطة بعيدة المدى، لبناء الدولة والمجتمع على أسس حديثة وديمقراطية. كما قادت ممارسات إقصاء الكفاءات من لدن الأحزاب والحاكمين إلى جعل أشخاص آخرين بعينهم يتصدَّرون المشهد السياسي، رغم عدم كفاءتهم للتصدي لقضايا ذات أبعاد وطنية وإستراتيجية، بل إنهم لا يعلمون عنها شيئاً أصلا. أضف إلى ذلك أن بلادنا تفتقر إلى أحزاب بالمفهوم الحديث، حيث تكشف خطاباتها وحملاتها الانتخابية وهياكلها أن بنيتها العميقة، هي في الأغلب الأعم، طائفية وقَبَلِية. ويرى بعض الباحثين أن الارتفاع المهول لنسبة المقاطعة والأصوات الملغاة يدل على وجود قطيعة بين الحاكمين والمجتمع، كما يعني أيضا عدم امتلاك الأحزاب لامتدادات مجتمعية لأنها لا تمتلك فكرا ولا تقوم بأي فعل ولا ردِّ فعل، إذ لا تحتك بالمواطنين خارج المناسبات الانتخابية، ما دفع بعض المتتبعين إلى التشكيك في شرعية "المؤسسات المنتخبة" التي يسودها فراغ فكري كبير. بذلك، لم يعد للأحزاب السياسية مخرج سوى الدخول إلى الحكومة لأنه يُمَكِّنُها من كسب زبائن وليس مناضلين، فتحوَّلت إلى مجرد هياكل فارغة لا معنى لها ولا تأثير. تبعا لذلك، تشكل طبيعة الزعامات السياسية عائقا أمام قدرتها على تطوير إستراتيجية أمن قومي تمكِّن البلاد من الإبحار في عالم العولمة. فالعصر يقتضي امتلاك فكَر إستراتيجي. وفي غياب ذلك، كيف يمكن تنمية الوطن وتحصينه والحفاظ على سيادته وضمان استمراره، وكيف يمكن للزعامات الحزبية أن تؤطر المجتمع وتكون مؤثرة فيه؟... عادة ما يسبق الفكر الحركة. والسياسة بمعناها النبيل هي حركة وممارسة تستند إلى فكر ينير لها الطريق، وليست جريا وراء تلبية شهوات الزعامات، ولا دورانا حول النفس. كما لا يمكن حصرها في أفق ضيِّق، لأن الدول بطبيعتها هي جزء من محيط دولي أوسع يتغير ويتطور باستمرار. وتفرضُ حماية الأمن القومي والتنمية الاقتصادية وتبادل المصالح، وما إلى ذلك... تفرضُ على الدول ضرورة التوافق مع المجتمع الدولي عبر اتفاقيات وقوانين وأحكام ملزمة للجميع على حد سواء. ولا تدار العلاقات الدولية بدون رؤية تتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة للبلد، وبذلك ترى دول أن مصالحها الحيوية تمتد إلى مناطق في العالم تقع خارج حدودها، فتبني إستراتيجية أمن قومي كفيلة بحماية مصالحها في تلك المناطق رغم وجودها في المجال الحيوي لدول أخرى. لذلك، فالدول التي تملك إستراتيجية أمن قومي هي التي تمتلك القوة، أما التي تفتقدها، فتشكل الطرف الأضعف الذي يتأثر بمن يمتلكها، ولا يقدر على التأثير فيه. كما أن من يقوم بردِّ الفعل لا غير، ويعمل على قاعدة المُيَاوَمَة، دون امتلاك رؤية مستقبلية أو سيناريوهات للتعامل مع الأحداث المُتوقَّعة والمفاجئة، فإنه يتغيب عن ساحة مصالحه الحيوية، ويُسٓهِّل على أصحاب الإستراتيجيّات الفعالة اقتحام مجاله الحيوي ولعب أدوار أساسية فيه عبر حركيتهم النشطة والمستمرة... وإذا كانت الإستراتيجية تتميز بوضوح الرؤية والهدف، وامتلاك خطط لتحقيق ذلك، وآليات لإنجازه، فإنَّ الوضوح يشكل أيضا ضرورة أساسية للمواطن في الداخل، ما يجعله يمنح ثقته للحاكمين ويدعم خططهم. كما أن هذا الوضوح ضروري للخارج في الآن نفسه، لأن هذا الأخير يبني إستراتيجية سياسته الخارجية بناء على هذا الوضوح كما يراه من موقعه. وبدون ذلك سيستغل الخارج غياب الرؤية الإستراتيجية لدى من لا يمتلكها ليخدم مصالحه الخاصة على حساب مصالح الأوَّل. يشكل غياب الفكر الاستراتيجي عِلَّة كبرى لأي دولة، لأن هذا الغياب يدل على عدم قدرة الأحزاب والحاكمين على إبداع فكر سياسي للدولة، حيث يتقوقع تفكيرهم حول مصالحهم الخاصة وليس حول المصلحة العامة للوطن وما تقتضيه من رؤية إستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار أساسا حال الوطن ومستقبله.