إن العديد منهم تركوا الحكمة جانبا لأنها جوهر الأمانة التي لا يتحمل ثقلها إلا من كانت التضحية ونكران الذات والمواطنة الحقة هي ديدنه وعلة استمرار صفاء حياته ، إنهم لا يريدون إلا الريع الذب يسمونه للتضليل خيرا ورزقا ، إلا أن خواتم الاختيارات ونتائج القرارات والاعمال وانعكاسها على الناس كافة سلبا وإحباطا لا ينفع يوم تبدل الاوضاع غير الاوضاع و السماوات غير السماوات والارض غير الارض، فيبرزون أمام الناس والتاريخ في هذه الحياة، وأمام الله يوم القيامة حيث تنشر صحف وكتب الافراد والجماعات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتحصيها وتوثقها بالتفصيل المجهري ويدعى كل واحد لقراءة الحصيلة الحقيقية التي افتقدت الحكمة في الحياة الدنيا فأفسدت على الناس حياتهم راهنهم وتهدد مستقبلهم . قال تعالى ..( يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) "سورة البقرة"، فمن انعدمت الحكمة الحقة في كلامه وأفعاله وسياساته وقراراته فقد جلب لنفسه وللناس شرورا كثيرة . ومن المعلوم عقلا وشرعا أن المفكر والعالم والسياسي والفقيه او أي باحث موضوعي و صادق لا يجوز له أن ينحاز إلى الخطأ ولا يتشبث به، ولا يتعصب لحد الجهالة لرأي أو موقف أو قناعة ، ولا يجنح إلى التقليد الأعمى لرأي مذهب أو طائفة أو جناح يميني أو يساري أو ينحاز الى العدمية ، لأن ذلك ليس من أصول وقواعد العقيدة والفكر المتعقل والسليم ، إن الذين يجعلون عمدا وعشوائيا أفكارهم عبارة عن مجموعة من المفرقعات المتسلسلة التي تترجم في الواقع بأشكال مختلفة أصبحت وتصبح أضرارها ومستويات تخريبها للقيم ومنظومة الحياة أكثر من العمل الارهابي الميداني ، إنهم كمن أصيب بسلس من "الهرطقات البدعية التضليلية " والسفسطة البليدة التي لا تريد إلا الاساءة للأخرين لإشباع حقد وجهل لا حدود له . إن هذه الممارسات الفاسدة تنقض طهارة الكلام والفكر فتجعلهما فاسدين يتسببان في تسمم مروجه وحامله والمحمولة إليه وحاضنه، كما تشوه معاني ودلالات وأهداف كل ما يربط بين الانسان بأخيه الانسان و بخالقه ، فتصاب المقاصد العقلية والشرعية بشلل مهول وبسكتات دماغية وقلبية تجعل أمتنا مهددة في حياتها في كل لحظة مما يتطلب وضعها بالعناية المركزة وتحت الحراسة المشددة مع الحجر على الأفكار والأعمال والإرادات للوصاية على الناس، فيصبح "التحكم" وهذا مقصدهم هو الحل الوحيد لاستقرار واستمرار الحياة بغرفة إنعاش مع وصف ذلك بأنه "تنمية" مستدامة تجعل كل من يسعى للخروج منها وكأنه مهدد بالموت أو مارق أو يهدد إجماع الأمة ووحدتها ، كما تتسبب سياسات اللامعقول والعبث، في تلوث الإيمان بدور العقل و النقل فيحرم بذلك الجميع من التمتع بسمو الروحانيات و العقليات. إن من كان في قلبه مثقال ذرة من بغض أو حسد أو عجب وعجرفة ، ومن كان لعانا وفظا وداعيا للإعجاب بسوء العمل ، لا يستطيع نصح نفسه ولا يقبل بنصح وتقويم غيره له ، إن تحويل الفضاءات الدينية والسياسية والوطنية إلى ملاعب "للغوغائيين" الذين لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون لا يتم إلا باعتماد الحيل والتلاعب والتغليط والتدليس لاستمالة ضعاف النفوس ممن أضاعت الأمية بوصلتهم أو ممن زين لهم شيطان من أنفسهم ما يقولون ويفعلون ، إنهم يسعون بشكل حثيث للسطو نهارا وليلا على العقول والأبدان والأموال والإرادات ، وهذا من أخطر أنواع السرقة الموصوفة التي تخرب كل شيء ، فكلما اجتمع الغوغاء على عالم السياسة والثقافة والدين، إلا وتخبو الأنوار وتمتد آثار الظلام إلى كل شيء، ويقتل كل ما هو جميل في الانسان والكون، لهذا كان الحسن البصري رحمه الله إذا ذكر أهل السوق والغوغاء عنده قال :" قتلة الأنبياء .." ، وسنجد في بطون كتب التاريخ وصفحات الواقع المعيش أنهم وراء قتل خيرة العلماء والشرفاء والمناضلين، وأنهم وراء خراب دول ومؤسسات . إن الغوغائية اليوم منتشرة في كل تمظهرات الواقع لدرجة القرف؛ طالت الفن والعلوم الوضعية والدينية والسياسة ، وأصبحت الميوعة والانحراف والتحجر والعدمية والانتهازية مجالات للتباهي والتنافس، إن إغراق الناس في الجهل والأمية و جرهم إلى الشارع وتجييشهم لمعارك فارغة ووهمية ومفتعلة لقضاء مآرب مرحلية ينافس أعمال " الشياطين " التي لا يأتي من وراء وسوساتها وإيحاءاتها إلا الضياع وسوء المصير ، فاتقوا الله إن كنتم تومنون به وبلقائه وتيقنوا أن رضى الله وشفاعة نبيه صلوات الله عليه وسلامه لا يتحققان إلا باحترام الانسان وتكريمه وضمان كل حقوقه وتمتيعه بخيرات بلاده وحمايته من كل مكروه بنشر الأمن والحرية والعدالة، وليس الوعود الزائفة التي تسمن ولا تغني من جوع ، ونخلص الى القول أن المشهد السياسي والعام اليوم لا يمكن وصفه إلا بالبؤس والتفاهة والسوقية والعدمية الجهلاء والانحطاط ، فأصبحت أوضاعنا وكأنها لن تستقيم إلا بما نحن عليه، وأننا لا خوف علينا ولا حرج، وأن غاية استقامتنا في اعوجاجنا وانحرافنا ، فتحطمت بذلك كل الأرقام السلبية السابقة قهرا وتحكما وتراجعا وتجهيلا وتضليلا في مجال إدارة و تدبير أمور السياسة لتأطير علاقات الرعاة بالرعية ولنقل بأسلوب ديموقراطي علاقات الشعب بالحكام ، وكأن الله في عون الشعب مادام الشعب والقوى الديموقراطية والحية تسعى للخير حقا وصدقا وعملا ، ولن نقول كما قال الأقدمون وكما جاء في الحديث لهؤلاء وأولئك ، ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت)؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت" ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، ونقولها بصيغة الجمع ، إن لم تستحوا فاصنعوا ما شئتم ، ونقول لهم كفي وكفى ثم كفى ، واتقوا الله في هذا الشعب الصبور والكريم والصامد الذي طال انتظاره للفرج الفعلي ، وفي مثل هذه الاحوال أصبح النصح والمعارضة البناءة من أوجب الواجبات لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ويجعل بعد العسر يسرا .