وليس هذا التوصيف مرتبطا بخطاب احزاب الحكومة المنتهية ولايتها فحسب، وانما هو قاسم مشترك بينها وبين احزاب المعارضة. وهو واقع يضفي على المشهد السياسي المغربي الراهن ضبابية اكثر مما يتم الإعلان من ان هدف التقييم هو التوضيح وإلقاء الأضواء الكاشفة على ما يمكن اعتباره مناطق الظل في الممارسة السياسية خلال السنوات الخمس الأخيرة. ليست المشكلة في اتهام المعارضة للحكومة بكونها لم تف بوعودها وأنها أخرت البلاد لمدة خمس سنوات هو عمر تلك الحكومة. ولا يكمن الاشكال في اتهام الحكومة للمعارضة في عدم تسهيل مأمورية القيام بمهامها لسلبيتها في التعاطي مع مبادرات الحكومة ومحاولة عرقلة إقرار القوانين او التشويش على الإصلاحات. فهذا امر متعارف عليه في النقد السياسي في مختلف التجارب الديمقراطية التي يحاول فيها كل الخصوم عدم النظر الى الكأس بما هي كذلك، وانما يتم التركيز فيها على ما يبدو فارغا منها لاتهام الخصم بالمسؤولية المباشرة او غير المباشرة على ذلك. بل المشكلة اعقد من هذا بكثير وابعد ما يكون من النقد السياسي الطبيعي والملاحظات النقدية المتبادلة بين الحكومة التي ترغب في البقاء في الحكم، وبين المعارضة التي ترى انها اقدر على الاضطلاع بمسؤولية الحكم. وبطبيعة الحال، فان حجة الحكومة تقوم على ما تنظر اليه بمثابة إنجازاتها. بينما تقوم حجة المعارضة على قدرتها الفائقة على التعامل مع الاوضاع التي ترى ان الحكومة قصرت في حل معضلات الواقع او فشلت في ذلك فشلا ذريعا. المشكل في هذا الخطاب السياسي انه لا يستقر على عنصر من العناصر ولا عامل من العوامل في صياغة أطروحاته النقدية، وانما يقفز من احدها الى الآخر دون ان يكون هناك مبرر موضوعي لذلك، اللهم متى تم اعتبار انكشاف المنطق المتهافت للعملية النقدية برمتها عاملا يسمح بالقيام بمثل تلك القفزات البهلوانية. فالحكومة لا تركز تقييمها على طبيعة الظرفية التي تحملت فيها مسؤولية تدبير الشأن العام لتفسير طبيعة الإكراهات التي وجدت نفسها امامها منذ الانتخابات التشريعية السابقة. وهي لا تقيس إنجازاتها بطبيعة الوعود التي قدمتها في برامجها الانتخابية وفي تصريحاتها السنوية بخصوص الأهداف المنتقاة والإصلاحات المنشودة. كما انها لا تكلف نفسها عناء إبراز طبيعة التشويش الذي تعرضت له او العرقلة التي تتهم بها القوى المعارضة لمشاريعها التي ترى انها جوهرية في مجال إصلاح عدد من القطاعات والمؤسسات. وهي لم تكتف بمحاولة استدعاء معطيات الماضي وممارسات الحكومات السابقة في معرض هذا التقييم. بل انها تخلط كل ذلك بعضه بالبعض الآخر لتنتقل من عنصر الى آخر وفق سياق تقييمي زئبقي لا يمكن المتابع للأوضاع والممارسات من الوقوف عند النقطة الجوهرية والعامل المحدد في تلك العملية التقييمية. وبضياع هذه النقطة تضيع بوصلة البحث عن معايير موضوعية للتقييم السياسي العام للحكومة وأدائها في مختلف مراحل تحملها للمسؤولية التنفيذية. ولعل اختراع مفاهيم مصطنعة مثل التحكم والدولة العميقة واعتمادها في الإيحاء بتفسير عناصر عرقلة الإنجاز غير مساعد على قراءة الوضع السياسي خاصة ان الحكومة وحزب العدالة والتنمية الذي قادها حريص كل الحرص على القفز من هذا المفهوم الى ذلك تارة في عملية الإيحاء الى الماضي وتارة اخرى الى المستقبل الذي يهدد البلاد متى لم يستطع الحزب الفوز في الاستحقاق الانتخابي المقبل . وهنا ينبغي تسجيل مفارقة غريبة في هذا الخطاب، وهي: ان الحصول على المرتبة الأولى في لانتخابات المقبلة هو الدليل الوحيد في نظر الحزب على نزاهة العمليات الانتخابية. اما اذا اختار المواطنون المغاربة حزبا آخر، فهذا يعني ان التحكم هو الذي فعل فعله وان العفاريت والتماسيح الوهميين هم الذين تدخلوا على الخط. اي أنها مفارقة تنبني على معادلة شقها الاول: حزب العدالة هو حزب الأغلبية بالمطلق، الامر الذي يحتم نجاحه في الانتخابات. وذلك مقابل، كل احزاب المعارضة ليست غير احاز أقلية. وعليه، لا ينبغي ان يحظى اي منها على أغلبية الأصوات. وهذا يعني انطلاقا من هذا المنطق انه لا جدوى عمليا من تنظيم الانتخابات لان نتائجها محسومة سلفا. وهو منطق متهافت على كل المستويات. ومن شأن سيادته تبخيس حق المواطن في الاختيار ومنعه من المساهمة في اي مستوى من مستويات العملية، غير تزكية تصورات وهمية عن أغلبية ميتافيزيقية لا يد للشعب في صنعها من قريب او بعيد. وهذا عين العبث السياسي الذي لا يبني ديمقراطية ولا وطنا في نهاية الأمر. وفي المقابل، فإن احزاب المعارضة الرئيسية والصغيرة على حد سواء، تضيع هي كذلك في عملية تقييم العمل الحكومي بين اعتماد بعض عناصر الظرفية السياسية ومحاكمة الحكومة في ضوء وعودها الانتخابية وإرجاع كل اللوم الى رئيس الحكومة الذي حول الخطاب السياسي الى ما تسميه المعارضة أسلوبا من أساليب التهريج الذي يدري بهذا الخطاب وبصاحبه على حد سواء. كما انها تحاول الإيحاء بكونها تملك مفاتيح حل كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعاني منها البلاد. وإذا كان من حق المعارضة تقديم برنامجها باعتباره البديل الحقيقي عن البرنامج الحكومي، فهل من حقها زعم ان هذا البرنامج سيقوم حتما على أنقاض برنامج الحكومة؟ مع العلم ان مجمل العمل السياسي المغربي قائم على عدد من التوافقات والتوازنات ليس بإمكان اي كان إنكارها، والعمل على تقويضها لما يمكن ان ينجم عن ذلك من مخاطر عدم الاستقرار والعصف بجوهر الثقافة السياسية السائدة في البلاد منذ مطلع القرن الحالي، وخاصة بعد اول تجربة للتناوب في البلاد برئاسة الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي بين نهاية عهد الملك الراحل الحسن الثاني ومطلع عهد الملك محمد السادس. ان الصراع بين هذين المنطقين: منطق التهرب من المسؤولية عما آلت اليه الأوضاع من سوء وتدهور، في عدد كبير من القطاعات خلال ولاية حكومة عبد الاله بنكيران، بدعوى تدخل عوامل شبه وهمية في صنع هذا الواقع ومحاولة التغاضي عن كل النقائص على مستوى ادائها ومحاولة تضخيم ما تراه إنجازات صافية لمصلحة الشعب المغربي من جهة ومنطق المعارضة التي تقدم نفسها كما لو كانت تملك اكثر من عصى سحرية بإمكانها وضع نقطة النهاية لمشاكل الشعب المغربي في مختلف المستويات، وزعم ان العائق الوحيد امام تحقيق هذا الحلم هو استمرار لعب حزب العدالة والتنمية دورا وازنا في السياسة المغربية، وان إزاحته من المشهد السياسي المغربي هي مهمة الساعة لكل الديمقراطيين والحداثيين المغاربة ان الصراع بين هذين المنطقين غير السليمين من حيث الجوهر رغم الاختلاف بين مدى سلامتهما من حيث الدرجة ليس بإمكانه المساعدة على احداث النقلة النوعية في الممارسة السياسية المغربية بحيث تقربنا من القدرة على تقييم ممارسة الحكم وممارسة المعارضة على قاعدة عوامل موضوعية مشتركة تسمي الإنجاز إنجازا سواء حققته الحكومة او يعود الفضل في تحقيقه الى المعارضة. ويسمي الخطأ باسمه، ايا كان من تؤول اليه مسؤولية الوقوع فيه. اذ ان هذا هو الذي يؤسس لممارسة سياسية سليمة تسمح بقراءة المشهد السياسي قراءة سليمة، كما تشجع المواطنين على اعادة النظر في موقفهم السلبي من السياسة والسياسيين. وهو ما يشكل ربحا صافية للشعب المغربي قاطبة في نهاية المطاف.