مطلع هذه السنة بادر وزير التربية الإسرائيلي نفتالي بينيت، ودون ضجيج إعلام يذكر إلى تشكيل لجنة رسمية لبحث سبل إدماج تدريس تراث اليهود الشرقيين ( السفارديم ) في المنظومة التعليمية والثقافية للبلاد. وقد عهد برئاسة هذه اللجنة إلى الشاعر اليهودي من أصول مغربية إيريتز بيطون، الذي أخذت اللجنة والتوصيات الصادرة عنها اسمه.
وفي مجتمع ديناميكي، وسريع التقلبات كالمجتمع الإسرائيلي المتسم شئنا أم أبينا بأجواء ديمقراطية بين العنصر اليهودي والصهيوني فيه رغم كثرة الشكوك والتوجسات المتبادلة بين مكوناته السياسية، من البديهي أن تثير توصيات اللجنة المذكورة الواقعة في أزيد من 350 صفحة جدلا صاخبا لأكثر من سبب :
1/ أولها تضمين التوصيات اتهامات مبطنة للعنصر الإشكنازي ( اليهود الغربيون ) صاحب الدور الكبير في بناء الدولة بتعمد تشويه تاريخ السفارديم، الذين سعت مختلف آليات الحركة الصهيونية منذ تأسيسها إلى العمل على صهرهم ودمجهم في البوتقة الإسرائيلية باعتبارها بيئة غربية إشكنازية كفيلة بالرفع من مستواهم ؛ وذلك بعد سلخهم عن هوياتهم الشرقية المتعددة المشارب.
2/ ثانيها الخشية من تكريس النزعة الشرقية ذات البعد الطائفي لدى ذوي الأصول السفاردية بشكل يحيي عندهم إيجابيات الحياة المشتركة التي كانت لديهم في مختلف البلدان الإسلامية، خاصة في بلدان برزو فيها بشكل لافت كالمغرب ومصر والعراق وإيران، ما قد يعزز توجه الانغلاق في صفوفهم بعيدا عن بوتقة الهوية الإسرائيلية الشاملة.
3/ ثالثها الارتياب من نوايا مبادرة وزير التربية المنتمي لحزب البيت اليهودي المعروف بنزعته الإشكنازية المتطرفة ؛ إذ يعتقد البعض أن هذا الحزب يريد كسب أصوات من داخل اليهود الشرقيين، الذين باتوا يشكلون أزيد من 50% من سكان البلاد، ومنازعة الأحزاب التي اعتادت تمثيل هذه الكتلة الانتخابية الهامة في الكنيست، وخاصة حزب شاس اليميني الديني المتطرف.
وبعيدا عن الحسابات الانتخابية الضيقة لهذا الحزب أو ذاك، فإن خطوة كهذه لا يمكن أن تحصل دون موافقة من كافة القوى السياسية، ومن المؤسسة العسكرية والحركة الصهيونية العالمية نفسها لعدة اعتبارات مرتبطة بالتداخل الحاصل بين التطورات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، والمستجدات الطارئة على المحيط الإقليمي الذي تتفاعل معه الدولة العبرية سلبا وإيجابا.
فالمعروف أن قوة إسرائيل تكمن في القدرة على المبادرة واستباق الأحداث، وعدم انتظار تحقق المخاوف، وتبلور الاحتمالات للتحرك.
أ ) ففي خضم الأحداث الجارية لتفتيت المنطقة العربية إلى قبائل وطوائف ومذاهب تتقاتل فيما بينها تخشى إسرائيل من إمكانية انتقال العدوى إليها ليس فقط عبر العنصر العربي الفلسطيني، الذي يشكل هاجسا مؤرقا لها بما يمثله من خمس سكان البلاد ، وذلك رغم بذور الفرقة التي زرعتها داخله بين المسيحيين والمسلمين وبين السنة والدروز ؛ وإنما من خلال تنامي تذمر اليهود الشرقيين الذين يشعرون بنوع من التمييز يطالهم ويطال ثقافتهم وتراثهم، وتذمر يهود الفلاشا الذي انفجر احتجات اجتماعية في أكثر من مناسبة.
لقد كان الخوف من الحروب مع العرب كما قال الفيلسوف الإسرائيلي أرييه ألياف هو الإسمنت الذي يوحد هذا المجتمع الإسرائيلي ؛ ولولاه لتفكك هذا الخليط الهجين منذ زمن طويل وفق توزع الطوائف والطبقات الاجتماعية.
والآن وقد انتفت أسباب الحروب مع العرب بعدما دخلت دول المنطقة وجيوشها في حالة اقتتال داخلي ؛ فإن إسرائيل في حاجة إلى عناصر تلاحم جديدة ومعاصرة تساعد في ترسيخ هويتها الجمعية لسكانها، ومحاربة أي شكل من أشكال التمييز، التي قد تكون مصدر متاعب اجتماعية وقلاقل أمنية في المستقبل.
ب ) بقدر ما استشعرت إسرائيل وجود مخاطر في الأحداث التي تشهدها بعض الأقطار العربية رأت أن تلك الأحداث تمثل فرصة مواتية لتحقيق العديد من أهدافها، سيما وأن مجرى التطورات في المنطقة اتخذ أبعاد حروب وصراعات أهلية في بعض الساحات، وركز في أخرى على قضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية دون كبير اهتمام بقضايا السياسة الخارجية.
وبالفعل نتيجة اختلال التوازن الإقليمي، وانغماس معظم القوى العربية والإقليمية في صراعات طائفية ومذهبية توارى كثيرا الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ما جعل وتيرة تهويد القدس وأجزاء واسعة من الضفة الغربية تمضي بسرعة ودون تنديد يذكر.
إن هذه المكاسب بلا متاعب لا تدفع إسرائيل إلى الغرور مطلقا، فهي تعرف أنها توجد في محيط عدائي لا يكفيها لمواجهة مخاطره على المدى البعيد التفوق العسكري النوعي والكمي، وإنما لا بد من اللعب على تناقضاته واستغلال هشاشة نسيجه المجتمعي لتفتيته، وقيادته مستقبلا كأقليات متناحرة ومتوجسة من بعضها البعض.
ولا شك أن هذه القيادة الإسرائيلية المنتظرة ينبغي أن ترتكز على نموذج الواحة الديمقراطية، الذي لن يترسخ إلا بالقضاء على أشكال التمييز التي تعاني منها الأوساط اليهودية الشرقية، المدعوة بحكم أنها نتاج الثقافة الشرق أوسطية بحمولتها العربية والإسلامية إلى أن تكون عراب الهيمنة الإسرائيلية على دول المنطقة وأداتها لولوج مجتمعات تلك الدول.
تبقى الإشارة في الختام إلى أن المغرب سيكون أكثر الدول العربية والإسلامية هدفا لتنفيذ بعض توصيات لجنة إريتز بيطون مثل :
*توصية تنظيم رحلات للأجيال الجديدة إلى بلدان أصول أجدادها. وقد ذكر المغرب كنموذج في هذا الباب على اعتبار أن الظروف الأمنية الراهنة في معظم الدول العربية، وفي علاقات إسرائيل مع إيران لا تسمح بتنظيم زيارات كهذه.
*توصية تصوير مسلسلات تلفزيونية عن شخصيات يهودية أندلسية ومشرقية في الأماكن التي عاشت فيها إن أمكن. وقد أعطيت سيرة مثل الحاخام موسى بن ميمون، الذي عاش متنقلا بين الأندلس والمغرب كمثال على هذه الشخصيات.
* الحذر المغربي ينبغي أن يكون كبيرا من التوصية المطالبة بإقامة متاحف لتراث الجاليات اليهودية المجمع من مناطق قدومها ؛ لأن من الممكن أن تجري محاولات لتهريب بعض محتويات هذا التراث الموجودة في المغرب، وإنكار أنها مغربية، والضرب عرض الحائط بمقتضيات الدستور المغربي، الذي يعتبر البعد العبري رافدا أساسيا من روافد الهوية المغربية.
هل يسمح المغاربة بالعبث في تاريخهم ؟ لا أعتقد، ولكن اليقظة مطلوبة، لأن بعض النفوس أمارة بالسوء، ولأن إسرائيل لا تعدم وسائل الترغيب والترهيب.