لم يكن للخيانة حجم كبير في تاريخ المغرب المعاصر، لا على مستوى التأثير في الواقع، ولا على مستوى المساحات في الزمن والمكان. وإذا اكتفينا فقط بالخط الزمني المسترسل منذ بداية القرن العشرين، وما تلاها من أحداث، وضمنها توقيع عقد الحماية إلى فجر الاستقلال، فسنجد أن أبرز الأسماء التي خانت الشرعية السياسية القائمة، أو تآمرت على التراب الوطني كانت لا تتجاوز عدد رؤوس الأصابع، ومن بينهم الروكي بوحمارة الذي انتفض ضد الملك المولى عبد العزيز مدعيا حقه الشرعي في السلطان، وأحمد الريسوني الذي أعلن التمرد في نفس الفترة معلنا استقلاله بالحكم بمناطق جبالة في الشمال، ثم محمد بن عرفة الذي انتدبه الاستعمار الفرنسي ليحتل السلطة الشرعية بعد نفي المغفور له محمد الخامس في 20 غشت من سنة 1953.
مع تحقق مطلب الاستقلال تغيرت السياقات بالنظر إلى التفاف المغاربة في السنوات الأولى خلال حكم المغفور محمد الخامس (1956ـ 1961) حول مشروع بناء المغرب المستقل، حيث بدت لحمة التماسك تحيط بمبدإ الوحدة. لكن الأمور ستجد بعد تسلم ولي العهد دفة الحكم. كان الحسن الثاني في الطرف الأول يحاول تثبيت مرحلة حكمه بتبني خط الاستفراد، معتمدا على شرعيته الوطنية والتاريخية، في مواجهة أقطاب الحركة الوطنية الذين كانوا يتمتعون بنفس الشرعية، ويطمحون إلى اقتسام الحكم. ومن هناك دخل الصراع أوجه مع الاتحاديين، خاصة بعد اندلاع ما سمي بمؤامرة يوليوز 1963، ثم بعد انتفاضة مارس 1965، وما نتج عن ذلك من سلسلة من الاعتقالات، والالتجاء إلى المنافي، ومصادرة حريات الرأي والتجمع، وإعلان حالة الاستثناء. وهو الوضع الذي أزم المغرب طويلا إلى أن اهتدى الملك الحسن الثاني، في منتصف السبعينيات، إلى إعادة اللحمة إلى الكيان الوطني بعد إطلاق المسيرة الخضراء (1975)، وبعدها مباشرة إطلاق «المسلسل الديمقراطي» الذي توج بعد التصويت على دستور 1996 بقيام حكومة «التناوب التوافقي».
خلال مرحلة الحسن الثاني لم تكن المواجهة بين خونة ونظام، ولكنها كانت أساسا بين النظام ومعارضيه على قاعدة أن الخلاف بين الأطراف يتم حول رهان الديمقراطية، لا على رهان الخيانة التي تعني طلب انتداب الخارج، أو المساومة على بيع جزء من التراب الوطني كما كان الأمر في مرحلة الحماية.
وفي هذا الإطار برزت قضية هشام المنظري الحالة النشاز، والتي سيتبين أنها كانت تعبيرا عن نزوع شخصي من أجل الابتزاز فقط، حتى وإن حاول صاحبها أن يلبسها رداء «وطنيا» بعد تأسيسه لما سمي تنظيم «الضباط الأحرار»؟ مع تولي محمد السادس حكم المغرب في يوليوز 1999 تغيرت معادلة النظام ومعارضيه السياسيين. لقد تمت عملية الانتقال من ملك إلى ملك بسلاسة مؤيدة بإجماع المغاربة، وبعد ذلك اتسع هامش الحريات نسبيا، وتواصل العمل السياسي بانفتاح مطرد. وتعزز ذلك بالتعديلات الدستورية المتحققة سنة 2011.
نعم لقد تغيرت المعادلة إذ تجاوز الأمر مشكلة تنازع الشرعيات ليصبح الصدام دقيقا فقط مع «بروفيلات» جديدة لا تكتفي بإعلان العصيان على الملك فقط، بل على المجتمع برمته، وعلى الاختيارات الوطنية التي توافق عليها المغاربة، سواء في الشق الذي يهم الحقل الديني (إمارة المؤمنين تحديدا)، أو في الشق الذي يهم الوحدة الترابية، أو في شق ثالث يهم مساومة البلاد حول مكاسب شخصية صغيرة. ما يعني أننا صرنا في مواجهة «معارضين» من نوع آخر، بعضهم خونة تماما لأنهم يسعون إلى ضرب المغرب خدمة لأجندات خارجية مكشوفة، وبعضهم سماسرة تماما، والمشترك بين الفصيلين أن هؤلاء يتحركون داخل المنتديات الدولية بلا مشروع وطني، وبلا قضية أو برنامج أو جدول عمل.
نميز داخل هذه البروفيلات بين مستويات مختلفة، في مقدمتها الأمير مولاي هشام الذي شارك في عملية الانتقال السلس للحكم بتوقيعه على وثيقة بيعة الملك محمد السادس. لكنه سرعان ما انقلب على بلاده بتبني خط «المعارضة» مموها ذلك بما يسميه «ملكية ديمقراطية»، محاولا بلا جدوى تكوين جبهة من بعض النشطاء الحقوقيين المعزولين ومن بعض الإعلاميين.
وضمن سياق مختلف تبرز أميناتو حيدر، المعتبرة دوليا ناشطة حقوقية، والتي ارتأت أن تسخر ذاتها لخدمة أطروحة الانفصال، ضدا على إرادة مواطنيها بالأقاليم الجنوبية، وعلى إرادة الوطن بكامله. وهي لا تجد حرجا في أن تستفيد من مواطنتها المغربية لضرب الوطن، وليكرسها الخارج المتواطئ كعنوان لطموح جزء من المغاربة في الاستقلال عن المغرب.
وفي الإطار نفسه تبرز حالة الضابط مصطفى أديب وزكريا المومني اللذين اتخذا النصب والاحتيال سجلا تجاريا باسم مناهضة التعذيب وفضح الفساد... والملاحظ أن قضية الاثنين غالبا ما تطفو على السطح كلما تصاعد التوتر في العلاقات السياسية بين الرباط وباريس، الأمر الذي يحمل أكثر من دلالة تفيد منطق الابتزاز الذي تمارسه علينا أوساط فرنسية معروفة بعدائها للمغرب، وبتعاطفها مع أطروحات الانفصال التي تروج لها الآلة الدعائية الجزائرية.
على الجبهة الإعلامية انخرط لفيف من الصحافيين الذين استفادوا من ريع سابق لتأسيس مقاولاتهم إعلامية بمال الشعب المغربي، وشرعوا باسم حرية التعبير في المساومة على النظام والمجتمع بناء على عقيدة الابتزاز، ولا شيء غير الابتزاز. ولما بارت غرائزهم لاذوا بالخارج ليعملوا موظفين في إطارات دولية تدعى الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم.
أما على الجبهة الاقتصادية فقد برز رجل ثري اغتنى أصلا خلال سنوات الرصاص، وفي ظلالها نمى رأسماله الذاتي لينطلق فيها بعد إعلان نفسه من «المعارضين» الجدد، باحثا عن موقع قدم «ثوري» في أي مكان، مرة ضمن حركة 20 فبراير، ومرة بالانخراط في «جوقة» العدالة والتنمية... بدراسة سيرة كل هؤلاء يتبين أننا إذن إزاء نخبة جديدة لا تنازع في الشرعيات القائمة طموحا في الوصول إلى شرعيات بديلة، لأنها أصلا بلا شرعية، ولا تعرض مشروعا للحكم يمكن أن يستقطب المعارضين لخط الحكم المتبع اليوم، ولكننا إزاء تجل لسلطات انتداب جدية تأتمر بالخيوط المتشابكة لخصوم المغرب، سواء على مستوى قضيته الوطنية، أو لخصوم التطور الديمقراطي كما يروج له جزء من الإدارة الأمريكية الحالية.
هي إذن «نخبة السماسرة» و«البزناسة» و«الشناقة» المنتدبين الذين يزعجهم الخط المتنامي للانفتاح ببلادهم لأنه لا يسمح لهم باستمرار الاغتناء بالريع وبالوساطات والمساومات. ولذلك يضعون قناع «المعارضة» من أجل مواصلة الابتزاز.
هذه هي حقيقة البروفيلات الجديدة التي نراها لا تتحرك إلا في الماء العكر، بجوازات سفر مغربية وأجنبية، وبحسابات بنكية مجهولة الموارد، بعيدة عن النبض الشعبي الخالص الذي يعيش تحت شمس المغرب بغضبه التلقائي، وبفرحه الطبيعي طموحا في غد أفضل.
تفاصيل أوفى تطلعون عليها في عدد أسبوعية "الوطن الآن" المتواجد حاليا في الأكشاك