كثيرة هي مآسي الإنسان ، وأكيد جميعنا في دروب الحياة نعيش أو نصادف أحداثامأساوية لصديق أو جار وأحيانا كثيرة لأناس لا تربطنا بهم صلة، مآسي توجعنا وتعصر دواخلنا فتكون أحاديث مجالسنا فهناك من يحكها في المقاهي وهناك من يحكها في جلسة شاي مع الأسرة أو الأصدقاء ، وأنا كثيرا ما فضلتحكيها بقلمي المتواضعفي ليال بيضاء يجافيني فيها النوم، لكن المهم والأهمأننا نحكي ونحكي ونحكي،فهلبحكينا نبحث عمن يقتسم معنا وجعنا ؟ أمترانا نريد بطريقة أو بأخرى التخلص من ألم يتعصرنا ؟
وجعي اليوم صادفته بشوارع مدينة الرباط إليكم به :
سامية امرأة جمعت كل متناقضات الحياة، طفولتها صاخبة و شبابها شوارع مدينة في ليالي شتاء بارد، ظاهرها قوي وداخلها ضعيف مترنح كورقة في مهب رياح خريف قاسي، تائهة في دروب الحياة لا تعرف أين المفر ،تنحت الصخر فتترك علاماتها عليه دونما نتيجة تذكر ، كيف لامرأة أن تعيش مثقلة بهاته المتناقضات ؟ غريب أمر سامية وغريب قدرها ، كيف تستمر في الحياة بابتسامة عريضة على محياها وهي تحمل هما تئن له الجبال؟هل يا ترى بابتسامتها هاته تسخر من قدر لم ينصفها؟ حياة سامية شبيهة بحياة بدوية ذهبت الغابة لتجمع الحطب ، فاشتغلت بجد ونشاط لتحصل على أكبر حزمة لكن حينما انتهت ظلت طريق العودة ، فلا هي استطاعت التخلي عما عرق جبينها من أجله ، ولا هي عرفت طريق العودة لبيتها، أتراها ستجد طريق العودة أم ستتيه على وجهها في غابة كثيفة أشجارها وكثيرة وحوشها؟
هكذا شبهتها بعد مصادفتي لها في شوارع العاصمة ويا ليتني ماصادفتها، الرائعة سامية عاشت طفولتها طولا وعرضا، في المدرسة كانت ملاحظات معلميها و أساتذتها متشابهة " تلميذة مجتهدة وذكية ونشيطة "، هكذا هي طفولة الرائعة سامية، لتأتي مرحلة المراهقة فتصبح فتاة جميلة تطغى عليها أنوثة صارخة لم تعرها اهتماما يذكر، لم تتجمل وتهتم بمظهرها كما تفعل الفتيات في مثل عمرها، بل انخرطت في نادي الكراطي ،الجينز و الحداء الرياضي لباسها، دائمة الابتسامة لا تحمل للحياة هما رغم وضعيتها الاجتماعية الجد متواضعة لكونها يتيمة الأب و أمها من تعيلها باشتغالها في البيوت، راضية بقدرها، لم تتساءل يوما كباقي بنات جلدتها وفي عمرها لماذا فلانة ترتدي ملابس غالية الثمن وأنا لا؟ أبدا لم تتساءل هذا السؤال بل لم يتبادرلذهنها قط هكذا كانت صديقتي في الثانوي و الجامعة.
حصلت على شهادة الباكالوريا بميزة حسن، ولجنا الجامعة سويا ، كان حلمها أن تكمل دراستها خارج الوطن لكن ظروفهاالمشؤومة حالت دون ذلك ، ما كان يميز سامية أحلامها اللامحدودة ، لكن قدر الله وما شاء فعل لم يتحقق لسامية شيء مما حلمت به ، هذا ما عرفته حينما طرقت زجاج نافدة سيارتي وهي تتسابق مع لاجئين سوريين لتبيع لي علبة مناديل ، حينها رفعت عيني لأرى من يطرق على الزجاج ، فكانت الصدمة كأن أحدا افرغ فوق رأسي دلوا من الماء البارد ، وجه شاحب تعلوه زرقة فظيعة كأنها تتعاطى الكحول أو المخدرات ، نفس القامة ونفس الابتسامة كما عهدتها ، هي لم تتعرف علي لذلك استمرت في الحاحها على بيعي علبة المناديل بابتسامتها الجميلة ، لكن صدمتي في صديقتي جعلتني أتجمد في مقعدي ، وبعد ان استفقت من هول المفاجأة سألتها : أنت سامية فلان؟ أجابتني نعم هل تعرفينني؟ أزحت النظارات الشمسية عن عيناي وخاطبتها حققي جيدا، وإذا بها تصرخ نعم، نعم أنت مارية الشرقاوي، أجبتها نعم وطلبت منها الركوب الى جانبي، فعلا فتحت باب السيارة وصعدت، أخذتها الى أقرب مقهى لنحتسي فنجان قهوة و نتبادل أطراف الحديث حتى أشبع فضولي في معرفة سبب تغير حياة صديقة الدراسة من الفتاة الجميلة المجتهدة المرحة إلى بائعة علب مناديل في شوارع الرباط، صديقتي الرائعة لم تحرك لسانها طيلة الطريق بل كانت بين الفينة و الأخرى تحدق بي وابتسامتها المعهودة مرسومة على محياها، ونحن في الطريق حاولت ان أخوض معها في الحديث عن ذكرياتنا مع أستاذ الرياضيات الدي كان معجبا بها كثيرا لشكلها لكن حقيقة لاجتهادها أيضا .
أخذنا مكاننا في مقهى بأكدال، وكانت هي من استهل الحديث قائلة : أظن أنك حققت حلمك وأصبحت محامية كما كنت ترددين دائما، أجبتها بابتسامة ساخرة، وهل ياعزيزتي كل ما يتمناه المرء يدركه؟ أبدا، دعك مني واحكي لي كيف اختفيت فجأة بعد وفاة والدتك و بدون سابق إنذار؟ أجابتني وهي تشيح بوجهها عني هو الزمان صديقتي، لكن اعفيني من سرد حكايتي، لكنني ألحيت عليها وياليتني ما فعلت سامية حبيبتيغفلتني وغادرت المكان بسرعة فائقة وهي تشهق بكاءا ، كأنها أرادتني أن أحتفظ بصورة الصديقة المبتسمة التي عرفتها لمدة طويلة . شعرت حينها بغصة في حلقي وباختناق، حاسبت النادل و أخذت سيارتي كل ما كنت أريده تلك اللحظة هو مغادرة المدينة وأخد الطريق الساحلي، وأنا في طريقي اختلطت أسئلة كثيرة في أعماقي، ما بك صديقتي؟ ماذا حصل معك حبيبتي وصديقة طفولتي؟ كيف جار عليك الزمان لتتسابقي مع اللاجئين على بيع علب المناديل؟ أضحيت لاجئة في وطنك وسط أصحابك وأحبابك ؟ اللاجئون السوريون جار عليهم الوطن وخذلهم العرب و تآمر عليهم المجتمع الدولي ؟ وأنت يا وجعي من تآمر عليك؟ من خذلك؟ من جعلك لاجئة في وطنك؟ من جعلك تتسكعين بين السيارات في شوارع ملئتها يوما بضحكاتك بل قهقهاتك، شوارع تقاسمنا فيها احلامنا سويا؟ فقد كانت تقول لي مارية سنصبح محاميتان مستقبلا ونتشارك مكتبا واحدا وحينما نتزوج سنجعل زوجينا صديقان، لم تعلم حبيبتي ووجعي ولم أعلم أنا أيضا بأن الزمن لا يؤتمن وغدره لا يرحم.
كلها أسئلة و ذكريات رافقتني إلى أن وصلت مقهاي المفضل المحاذي للبحر ملجئي في أحلى لحظاتي وأتعسها. جلست هناك ساعات أنظر للأمواج ترتطم على الصخوربروتينية محكمة بدون كلل أول ملل، لم أشعر بالوقت يمر، كنت مغيبة مخدرة بمأساة صديقة طفولتي. لم أجد جوابا، تساؤلاتي ظلت عالقة، كما هي عالقة لقارئ الحكاية الان، لكن مهما تساءلنا عن السبب ومهما طلقنا العنان لأفكارنا بحثا عن الجواب تظل دائما وأبدا الأسباب متعددة و الوجع واحد : كيف للمرء أن يعيش لاجئا في وطنهاتراها ستنجو من انياب الوحوش الكاسرة و تعود الى بيتها لتملؤه دفئا بحطبها؟ أم ستفترس ويبقى حطبها ذكرى على أن سامية مرت من هنا يوما ما؟