ومن تم التساؤل حول ماذا يريد عبد الله البقالي من خرجته الإعلامية تلك؟ ينبغي استحضار سياق هذه التصريحات المندرج ضمن مرحلة حرجة يعيشها حزب الاستقلال وأجهزته القيادية التي تبدو، في المرحلة الحالية، كما لو أنها فقدت البوصلة بعد أن تاهت في لج الجبهات المتعددة التي فتحها الحزب، وبعد التعثر بين المشاركة والمعارضة و«الدخول والخروج» في الحكومة، وبعد عدد من التجاذبات التنظيمية التي وصل بعضها إلى مضاعفة الاتهامات في حق الأمين العام نفسه. نتيجة ذلك التبس الأمر على هذه القيادة بين الحلفاء والأعداء والخصوم، وبين ما هو ثابت في الزمن السياسي وما هو متغير، ومابين التكتيك والاستراتيجية.إن من أعراض فقدان البوصلة كذلك ارتكاب خطأين أساسيين: 1 - أن حزب الاستقلال نظم ندوة حول السلفية استدعى إليها رفيقي، أحدرواد السلفية الجهادية ودخل للسجن بسبب تلك الافكار، وفي ذلك تناقض صارخ، على اعتبار أن الاستقلال كان دائما عراب السلفية التنويرية والسلفية المجددة بالمغرب في مواجهة السلفيات الطاعنة في التكلس والتطرف. ولنا في تراث الأستاذ علال الفاسي الكثير من الإشراقات التي يعتز بها المغاربة.وفي الوقت الذي كان الواجب يفرض صيانة روح علال الفاسي وغيره من المنافحين على التدين المغربي المنفتح، رأينا حزب الاستقلال، ويا للأسف، يستنجد برفيقي، ويفتح له المقرات ليعرض تنظيراته في شؤون الدين والدنيا. -2 في نفس السياق عميت بصيرة الحزب حين تسابق مع الأصوليين في رمي الخصوم على اعتبار أنهم ضد الإسلام (مثلا ضد إلياس العماري) وهو ما يعني الرغبة في إحياء محاكم التفتيش ونصب المشانق الداعشية ومغازلة الحركة الأصولية وإشهار التوبة تحت أقدام بنكيران.في هذا السياق يدخل حزب الاستقلال في مواجهة مع الملك، ليس لأن بنكيران ذبح الطبقة المتوسطة أو لأن بنكيران جمد عجلة النمو الاقتصادي وسرح الشغيلة ونفخ السجون وأفرغ صناديق التقاعد، بل لأن حزب الاستقلال بدأ يخاف من أن يحرم من غنيمة انتخابية في الاقتراع القادم. وهو الأمر غير المألوف إذا استعرضنا تاريخ حزب علال الفاسي، وكل أشكال الصراع التي خاضها منذ الاستقلال إلى اليوم. ذلك أن المؤكد أن هذا الحزب الوازن، بتاريخه وبرصيد التنظيمي وشرعيته الوطنية، كان دائما لا يتردد في فتح الجبهات على وزارة الداخلية كلما رأى المواجهة ضرورية. ومع ذلك لم يسجل أن صوب مدفعياته نحو المؤسسة الملكية كما يحدث اليوم. لا فقط لأنه كان دائما صنوا لهذه المؤسسة مباشرة في معركة التحرير ضد الاستعمار، وبعدها في معركة بناء الاستقلال، ولكن كذلك لأنه يعي أن قوة المؤسسة الملكية من قوة النسيج الوطني لما تمثله من شرعيات دينية وتاريخية ومجتمعية ودستورية،ومن دورها كحليف قوي لتعزيز المسار الديمقراطي ولتحديث المجتمع، ولترسيخ مبادئ التعدد والتنوع والوسطية. وهذا الاختيار الواعي كان القاسم المشترك بين كل الأحزاب الوطنية والمؤسسة الملكية. ولذلك ففي أوج المواجهة بين الملك والأحزاب الوطنية لا تصل الجرأة للتطاول إلى هذا الحد. نذكر عبدالرحيم بوعبيد ورفاقه الذين قادهم التعبير عن رأيهم الخاص في ما يتعلق بمسطرة الاستفتاء إلى السجن سنة 1981، ومع ذلك لم يضعوا المؤسسة الملكية موضع الاتهام، ولكنهم اعتبروا قرار سجنهم داخلا في مجال التوتر حول مبدإ حرية التعبير والرأي، ومحنة البناء الديمقراطي. حتى عبد الرحمان اليوسفي حين تم التلاعب به، سنة 2002، استعمل قاموسا راقيا، ألا وهو مصطلح: «الخروج عن المنهجية الديمقراطية»، دون أن يصدر عنه رد فعل طائش ضد المؤسسة الملكية أو محيطها لأنه سياسي راق يميز بين الاستراتيجي والمرحلي، بين الثابت والزائل. تصريح عبد الله البقالي يأتي، إضافة لذلك، في لحظة وطنية موسومة بتنامينزوع التحرش بوحدة البلاد وسلامتها، وباستهداف المؤسسة الملكية، وإمارة المؤمنين تحديدا، يتم ذلك سواء من طرف خصوم وحدتنا الترابية في المحيط الإقليمي أو الدولي، أو من طرف التهديدات الإرهابية التي تتربص بالمغرب، أو من طرف جبهة الداخل حيث يتواصل عمل الخلايا النائمة على يد من يسمى"انفصاليو الداخل"، أو على يد الحركة الأصولية التي تمارس سياسة الظاهر والباطن والابتزاز في انتظار أن تنقض على شرعية الاقتراع.ضمن هذه السياقات المتأججة نعود إلى سؤالنا: ماذا يريد عبد الله البقالي؟ يصعب أن نمتحن النوايا لكن المؤكد أن تصريحاته تلك لا تخون فقط تاريخ حزبه، ولا تضرب شروط التعاقد بين المؤسسة الملكية وامتدادات الحركة الوطنية. ولكنها كذلك تعرض البلاد للمجهول لأنها تحاول أن تسقط استراتيجية القوى الحية بالبلاد التي هي مع المؤسسة الملكية بينما الخطر الذي يتهددنا جميعا هو الحركة الأصولية التي تبقى خصمنا المشترك. ولا نعتقد أن هذا هو الاختيار الجديد للحزب الذي اعتبرناه حاليا فاقدا لبوصلة التصرف والاختيار. كما لا نعتقد أن تيه الاختيار يمكن أن يكون له هذا التوجه المدمر للأسس وللمشترك الوطني، وإلا فسيكون من المنطقي التساؤل عمن له المصلحة في التحالف مع الحركة الأصولية في الإساءة إلى المؤسسة الملكية، وفي توريطها في نزاع يمكن أن يحل عن طريق صناديق الاقتراع، أو بالطرق الدستورية والقضائية لا بالهروب إلى الأمام. في انتظار أن نتوصل بالجواب عن هذه النازلة، لنا الثقة في أن يستعيد حزب الاستقلال خطه التحريري والسياسي المعهود الذي كان يجعله دائما صمام أمان ضد كل ما من شأنه أن يمس بوحدة البلاد، وبرموزها وبثوابتها واختياراتها المناهضة لكل أشكال التطرف والابتزاز والمناورات الرخيصة والحسابات الصغيرة المخطط الأصولي لحزب العدالة والتنمية لتكسير «بيضة» إمارة المؤمنين منذ نشأت حركات الإسلام السياسي في العصر الحديث وهي تتحرك في المشهد العربي الإسلامي وفق تبنيها لثلاثة ثوابت: (مرجعية موازية) ازدواجية الخطاب الدعوي والفعل السياسي وفق منهج التدرج في مقاربة الشأن العام، في أفق التمكين بعيدا عن المواجهة الصدامية مع أنظمة الحكم إلى أن تمتلك المجتمع برمته. وهذا ما يجعلها تتوجه أساسا نحو العمل الخيري كمنطلق حاسم في بنائها الاستراتيجي. ـ ازدواجية أدوات العمل الموزعة بين آليات التنظيم السرية (المسلح أحيانا) والإطارات المدنية، وبين الاغتيالات والمشاركة البرلمانية. ـ ازدواجية الانتماء إلى العقيدة من جهة، وإلى الوطن الذي ليس هو المقومات التقليدية (الأرض والسيادة) ولكنه الوطن الديني الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية. وتعتبر تجربة الإخوان المسلمين في مصر الملهم الأول لهذه الثوابت منذ أسسها حسن البنا سنة 1928 على خلفية إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، إثر انهيار الامبراطورية العثمانية قبل ذلك التاريخ بثلاث سنوات فقط. ومن تم سارت كل الحركات اللاحقة على هدي هذه الثوابت، بمن فيهم (إسلاميو)المغرب الذين صارعوا النظام وهادنوه، بل انخرطوا في غاياته كما حدث أثناء مواجهة الدولة لليسار في سبعينيات القرن الماضي، ومارسوا العمل الدعوي الخيري في الظاهر مبقين على مبدأي التدرج والتمكين كخطاب جوهري في أدبياتهم التأسيسية كما لدى جماعة العدل والإحسان وحزب العدالة والتنمية... وإذا كانت الشروط الراهنة قد أبقت على مريدي عبد السلام ياسين كمجرد"حركة دعوية"، فإن نفس الشروط قد اتاحت لتلاميذ عبد الكريم مطيع أنيسلكوا كل المنعرجات من أجل الانخراط في المشهد السياسي الحالي. فهل تخلى رفاق بنكيران عن ثوابت «الإسلام السياسي» كما حددناه أعلاه، أم أنهم اقتنعوا فعلا بمكتسبات الفكر الديمقراطية، وصاروا حركة سياسية تؤمن بالقواعد الكونية لتصريف الموقف السياسي كما يدعون. إذا تأملنا وجودهم التنظيمي الشرعي، منذ انخراطهم في حركة عبد الكريم الخطيب، إلى اليوم فسنجد أنفسنا أمام المعطيات التالية: 1ـ إنهم يبقون على المعنى الفضفاض لاعتماد الإسلام كمرجعية أساسية الذي يعني أساسا الخلط الإرادي بين منحى الدعوة والعمل الخيري. وبناء على ذلك تلتقي أدبياتهم مع المرجعية الإخوانية بالضبط رغم تصريحاتهم بالقول إنهم ليس فصيلا إخوانيا، ولا علاقة لهم بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين. 2ـ وكما لم تغير أدبياتهم فإن سلوكهم حافظ على طابعه الازدواجي حتى وهم يتحملون اليوم مسؤولية رئاسة الحكومة وإدارة الأغلبية الحكومية. وفي هذا الإطار نلاحظ إبقاءهم على الطابع الازدواجي في الممارسة عبر الذارع الدعوي (حركة التوحيد والإصلاح) الذي يتولى مهام واختصاصات المرشد العام الذي يوجه الذراع السياسي (حزب العدالة والتنمية). ومعنى ذلك أنهم لم يتخلوا عن فكرة امتلاك بنيات المجتمع العميقة في أفق امتلاك الدولة. كما يعني ذلك الإبقاء على غموض العلاقة بين ممارسة الدين وممارسة السياسة،وهو ما يتعارض جوهريا مع المفهوم الحديث للعمل الديمقراطي المدني. في نفس الإطار نلاحظ أن نزوع الامتلاك والهيمنة صار يتجه نحو روافد مجتمعية أخرى أكثر فعالية من قبيل استقطاب الأطر الجديدة من داخل المجتمع، وتوجيه الأطر المتوفرة لديهم للسيطرة على المجالس العلمية التي تقع تحت رئاسة أمير المؤمنين. وبموازاة ذلك يسعون إلى السيطرة على امتلاك جل مدارس التعليم العتيق والشعب الإسلامية داخل الجامعات المغربية، ومن خلالها التحكم في توجيه الطلبة، وفي بنائهم الذهني والمعرفي وفي توفير الخزان الذي يغرفون منه لتزويد الإدارة والحقل الديني بأنصارهم واتباعهم. كما يسعون إلى تحريف مهام وظائف الجماعات الترابية من خلال تركيز منتخبيهم على بعض الأهداف الخيرية والدعوية (قفة رمضان/مزاحمة المجالس المحلية في الحقل الديني بالإشراف على حلقات التجويد والقراءات القرآنية تحت مظلة منظريهم الأصوليين...(يتبين، من خلال هذا الجرد التمثيلي فقط، أن حزب العدالة والتنمية،والأصوليين بشكل عام، لا يعملون فقط على تصريف ازدواجيات التدرج والتمكين، والدعوى والسياسة ولكنهم يعملون أساسا على اختراق مساحات استراتيجية داخل الحقل الديني، والتشويش على إمارة المؤمنين التي تبناها المغرب منذ عقود كشكل توافقي من أجل الحفاظ على وحدة المغرب السياسية والمذهبية، وعلى التوجه الإسلامي الوسطي. إنهم يسيرون نحو هذه الأهداف بتدرج دقيق من أجل امتلاك المجتمع والدولة عبر إفراغ إمارة المؤمنين من جوهرها ومضمونها المغربي حتى ينقضوا على كل مفاصل المغرب. الخطير في الأمر أن هذه الاستراتيجية التدميرية تهدف إلى أن تضع هؤلاء الأصوليين في مواجهة مباشرة مع الدولة في غياب دور فعال واع للنخبة السياسية والمالية والجامعية والفكرية والمدنية المشتغلة بحسابات السياسة الانتخابية، وبحسابات المصالح الذاتية عبر انتهاز الفرص من أجل استثمار الريع السياسي والفكري. وهذا ما يدفعنا كإعلاميين إلى أن ننبه إلى أن ما يبدو انسيابا على مستوى ظاهر المشهد السياسي يخفي نزعات فاشية وشمولية وتهجمية وتحكمية على مستوى الباطن السياسي.لقد رأينا ما حدث في مصر بعد إسقاط حسني مبارك حيث تمكن الإخوان المسلمون من الوصول إلى سدة الرئاسة، فبادروا مباشرة إلى الانقلاب على الديمقراطية باسم شرعية صناديق الاقتراع، وعرضوا تراب مصر إلى البيع باسم أن الدين هو الجنسية وليس الأرض. ورأينا ما يحدث اليوم في تركيا التي يسعى فيها أردوغان (السلطان العثماني الجديد) إلى تعديل الدستور من أجل سلطات واسعة للتحكم في المعارضة والإعلام والمجتمع المدني ولتذويب الأقليات.ولأن حركات الإسلام السياسي تنهل من معين أصولي واحد فعلينا أن نتوقع الأسوأ في مشهدنا العام في حالة استمرار الصمت السياسي إزاء ما يقوم به مندوبو هذه الحركات في بلادنا. ولذلك من حقنا أن نغضب على استمرار هذا الصمت الذي يعتبر جريمة تواطؤ مع من يريدون الانقلاب على حلم المغاربة في بناء مجتمع منفتح ومتعدد وحلمهم في بناء دولة تدبر الاختلافات فيها بالبرامج والتصورات وليس باستغلال الدين للانقلاب على كل الشرعيات التي أرست معالم مغربنا. الأصوليون بالمغرب يضعون الدولة والمجتمع أمام خيارات صعبة، فإما أن تتحقق صحوة الديموقراطيين المغاربة الحقيقيين لوقف هذا النزيف المدمر،وإما أننا نتدرج إلى ما قبل المسلسل الديموقراطي، حيث تعوض سنوات الرصاص بديكتاتورية أصولية جديدة تنهي مع فكر التنوع والاختلاف لفائدة نزوع الاستحواذ والابتلاع باسم التأويل المغرض والخبيث للدين.