قد لا يكون "حزب الله" مسؤولا عن تفجير "بنك لبنان والمهجر" منذ بضعة أيام. ولكن بالتأكيد، هو الذي خلق المناخ المؤاتي له.. بالمعركة المفتوحة التي أعلنها ضد هذا البنك نفسه، وقبله ضد رياض سلامة، حاكم البنك المركزي.. بالحملة الفايسبوكية والدعم الإعلامي الذي لاقاه من بيئته الحاضنة؛ وقد استرسلت هذه الأخيرة خصوصا في تحميل كل الأوصاف "الإمبريالية الرأسمالية" للإجراءات العقابية التي اتخذتها السلطات المالية الاميركية ضد الحزب. بعدما وضعته على لائحة المنظمات الإرهابية، بسبب اشتراكه، كما لم ينكر زعيمه مراراً، في حروب سوريا والعراق واليمن.
على المنوال نفسه: قد لا يكون الرصاص الطائش، ولا التفلّت الأمني، هما من صنع عناصر محدّدة من "حزب الله". قد لا يكون كل أزعر، كل حامل للسلاح الفردي، كل منتقم لمقتل ابنه بأبشع الصور... عنصراً من "حزب الله". ولكن رفض هذا الحزب على امتداد عقدين من الزمن، أن يكون كل السلاح بيَد الدولة وأجهزتها الشرعية، أعطى لكل هذه الطاقات التخريبية الحجة والمجال لتنطلق وتنمو على أرض لبنان، كما لم تفعل قوى أخرى في تاريخه الحديث.
أيضاً: الإرهاب المذهبي السني، أو المذهبية السنّية غير المنظمة، مكوَّن بشريا من متعصبين سنّة، لا شيعة. ولكن ازدهار هذا الإرهاب ومعه المذهبية السنية، وجد على أرض المذهبية الشيعية، المتمثلة بـ "حزب الله" ونظرائه العرب. هو ليس حزباً علمانياً طبعاً، ولا "طائفيا" على الطريقة اللبنانية المألوفة، المتساهلة، الشاطرة بإقامة التسويات. لا هو ليس هذا كله. إنما هو الحزب القائم على العصبية العقيدية، لا يحق له ان يتفاجأ عندما يلاحظ بأن غيره من المذاهب أو الأديان تكوَّن على صورته المذهبية البحتة؛ إذ يكون في هذه الحالة قد ألهمته التجربة الناجحة لـ"حزب الله"، فقرر أن ينسخها، بأشنع منها.
في حرب تموز 2006. طبعاً إسرائيل هي التي قتلت ودمرت وأغارت، حتى خرج منها لبنان مدمّى بحجره وبشره. ولكن "حزب الله" هو الذي بادر إلى هذه الحرب، باختطافه جنوداً إسرائيليين، وقتله اثنين منهم، وبإعداده لهذه الحرب بعناية تامة، وبخوضها على أفضل الوجوه، حتى بلغ "النصر الاستراتيجي التاريخي الإلهي". ثم الندم بعد ذلك على نغمة "لو كنتُ أعلم".
انهيار الدولة اللبنانية، الشغور الرئاسي، التمديد للبرلمان، الفساد الخرافي. بالتأكيد، كل الأطراف الأخرى المعادية لـ "حزب الله"، بقوة أو بضعف، لها فضل أياديها السوداء على هذه المشكلات كلها. ولها ذريعتها أيضاً، التي تستغلها على أكْره الوجوه. ولكن "حزب الله" هو الذي أنعش ثنائية انهيار الدولة واللبنانية والفساد. بتعطيله لقوانين الدولة، بعرقلته، تحت التهديد، لانتخاب رئيس جمهورية، بصفته أقوى الأقوياء عسكرياً، أقوى من الجيش. رهبة سلاحه حتى اللحظة تمنع اجتماع النواب إلا لانتخاب مرشحه. بل ربما هذا التعطيل ليس سوى طريقة لتأجيل استعادة الدولة اللبنانية حتى تُحسم نتائج الحرب في سوريا؛ لصالح المحور الذي يتبعه، الإيراني الروسي، أو الآخر، الأميركي التركي الخليجي (مع حفظ كل التلاوين).
الانقسام الوطني اللبناني حول الحرب في سوريا، سهّلته تقاليد الانقسام الوطني الراسخة. و"حزب الله" لعب عليه عند تأسيسه. وهو استمر بذلك، وتكلم عسكريا، بحيث بات لهذا الانقسام وجه دموي. "انتقاله" إلى سوريا تمّ عبر خرقه للحدود الوطنية، بحيث أصبحت هذه الاخيرة مستباحة، له وللذين يتهيؤون للرد عليه عسكرياً. وهو لاقى صدى إيجابيا من أكبر التنظيمات الإرهابية السنية، التي قلدته فحطّمت الحدود العراقية السورية.
ليس "حزب الله" إرهابيا على طريقة "داعش" أو "النصرة". وإن شهدت بداياته في نهاية الثمانيات أعمالا إرهابية. لكن تدخله في سوريا والعراق واليمن دعما للسياسة الإيرانية التوسعية، حوّلته إلى منظمة إرهابية. بل "حزب الله"، بفضل فلسطين، صار النموذج الإيراني الأعلى للميليشيات الإرهابية الموالية لإيران، تقدمه القيادة الايرانية بصفته مثالا يُحتذى للتنظيمات المذهبية الأخرى العاملة في سوريا، في العراق، كما في اليمن.
الغاية من كل هذا: لا تنفع دعواتنا "حزب الله" للتعقّل والتحاور، أو القيام بتسويات. فهذا الحزب هو سجين وجوده نفسه. هو أكثر المتضررين من وجوده. وإذا حاول أن يتغير، بعمق، وليس في الخطب الرنانة، مجرَّد محاولة جدية، لن يكون "حزب الله"، إنما حزباً آخر.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)