مصطفى المانوزي:هل يغني النضال الحقوقي والخيار اللبيرالي عن الديموقراطية والاشتراكية ؟
سقط جدار برلين وتحول الشيوعيون إلى اشتراكيين ، وهؤلاء إلى ديموقراطيين اجتماعيين ، وحلت الحركات الحقوقية محل الحركات الثورية ، باسم النضال السلمي بدل العنف من أجل بناء الديموقراطية ، مما يؤكد أن الاستراتيجيات تغيرت، لكن هل تغيرت الذهنيات والتمثلات، في ظل شبه تباث لتعايش أنماط الإنتاج مع استمرار هيمنة التقليدانية ، مادام مهندسو الدولة يجتهدون في إبداع وسائل ناجعة للتكيف مع التحولات العالمية دون تحول، بل الإمعان في خلق عراقيل لأي تغيير نوعي، إلى درجة أن الدولة تخلت عن طبيعتها التدخلية في المجالات الاجتماعية ، وإذا كان من نقط الالتقاء بين النخبة السياسية ، وعلى اختلاف ألوانها ومشاربها، والدولة، فيمكن حصرها في التنافس حول تبني المقاربة الحقوقية كوسيلة لبناء دولة الحق والقانون، بالنسبة للأحزاب الديموقراطية وقوى اليسار ، وكوسيلة لفك العزلة عن السمعة الحقوقية ، بالنسبة للدولة ، والحال أن كلاهما تخلى عن البعد الاجتماعي ، في الهويات الحزبية والسياسات العمومية ، مما استدعى سؤال علاقة السياسي بالحقوقي ، والحال إنه مفروض في الدولة أن تنحو منحى ليبراليا باعتماد مقتضيات العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية، بنفس القدر الذي يفترض في الحركة السياسية التقدمية أن تواصل تفاعلها مع مقتضيات العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . فما جدوى أن يتم التضخيم في الانتظارات ذات الصلة بالمطالبات بتوسيع مجال التأسيس لدولة القانون والحريات دون الانتباه إلى أهمية مطلب العدالة الاجتماعية في شقيها ، كاعتراف وكإنصاف ، في الوقت الذي تشترط الكرامة كموجب لضمان تحصين الحريات ؟ فإذا كانت الدولة مجبرة على تحديث نفسها ، خارج بوثقة التكيف فقط ، بل من صميم الإرادة في التحول المنشود ، فإنه بالنسبة للأحزاب يصير رد الاعتبار للبعد الانساني / الاجتماعي في هوياتها شرط لاستمرارها ، ليس كوسيط بين الدولة والمجتمع ، ولكن كمعبر عن إرادة المتضررين من المنظومة الاقتصادية والاجتماعية ، بسبب الإقصاء والهشاشة الاجتماعيين ، نحو التغيير ، من هنا يمكن أن نتساءل عن الأدوار المتطلبة أو المتبادلة بين الفعل السياسي وبين الفعل الحقوقي ، وعن الحاجة إلى مأسسة المسافات فيما بين السياسي والحقوقي ، باعتبار أن الفاعل السياسي هو من خلق الفعل الحقوقي ، وجعل منه قناة للصراع مع السلطة العمومية ، بعد أن كان السياسي ، عبر العمل الجمعوي والنقابي ، يتجاوز هذا الدور إلى حد الاستعمال من أجل بلوغ زمام السلطة نفسها ، وصارت الأحزاب دراعا سياسيا للجمعيات الحقوقية ، على عكس ما تؤاخذه المقاربة الأمنية . حقا إن الحركة الحقوقية لعبت دورا أساسيا في خلخلة البنيات التقليدانية باحراج النظام السياسي ، داخليا وخارجيا ، من خلال المطالبة بإقرار دولة المؤسسات والقانون بدل دولة الأشخاص والتعليمات ، وبالدفاع عن قيم التحرر والحرية والمساواة ، لكن بحكم ترسبات ثقافة المعارضة والعنف الرمزي ، جعلت من أغلب الحقوقيين ينساقون مع تمثلات التأسيس والتكوين ، فقد تماهت لديهم الأدوار والصلاحيات ، ما بين مطلب التغيير ومطلب الإصلاح . وإن كل هذا قابل للتقويم ،بعد النقد والتقييم ، غير أن المقلق والمخيف هو أن تتحول الأحزاب السياسية إلى قنوات ليبرالية بتركيزها على « النضال » التشريعي الملازم لبناء دولة القانون ، يكرس كل تدابير التقويم الهيكلي ومقتضيات « توافق واشنطن » وتداعيات اللبرالية المتوحشة ، دون تبني وتحمل للمسؤولية الاجتماعية ، كسبب للنزول ، في ظل مجتمع يرزح تحت التخلف البنيوي ، وفي ظل مد محافظ متصاعد ، بحماية رأسمالية متوحشة ، وفي ظل تآكل شرعية النظام الاجتماعية المغلفة لشرعيته الدينية ، والتي لايمكن حمايتها ،فقط ، بادعاء الحداثة أو الديموقراطية السياسية . إن السيادة الوطنية مهددة بكل مساس بالكرامة الإنسانية ، لذلك فالمطلوب هو الاهتمام أكثر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، والبحث عن سبل تشريع جزاءات عن انتهاك لها أو عدم الالتزام بها ، ضمن سياسات عمومية وترسانات قانونية ، و بتمثلها في البرامج والهويات الحزبية ، أما الحقوق السياسية والمدنية ، فمن باب أولى أن نجعل منها داعمة لمسار معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكافة الجرائم الاقتصادية والاجتماعية .