هٌنا السماء شاحِبة لا تلمع بالأضواء والألوان، هنا يوجد مغرب يستيقظ كل صباح على وجع الحرمان: بؤس وغياب الرفاهية والارتياح.. مغرب فارقه الانشراح، مغرب لا تطؤه أقدام، مغرب مختلف جدا عن "موروكو مول". مغرب لم يتذوق طعم الترف. مغرب يتقاسم مع محمد شكري عنوان "الخبز الحافي". مغرب لا يتوفر حتى على رصيف ليسند رأسه ويسمع دقات قلب أسلافه التي أفنت زهرةعمرها في الدفاع من أجل هذا الوطن الجريح..!! هنا جزء من الوطن يسمى المغرب العميق. سكانه مهملون ومنسيون في أعالي الجبال. وفي الصحاري والقفار دموعهم معتقلة، وجوه بريئة سليمة النية، في داخلها يسكن الشوق والاشتياق الذي افتقدوه منذ بروزهم. أناس يصارعون من أجل البقاء، اختاروانمط البساطة في العيش.
هنا حكاية سيحكيها التاريخ للأبناء، هنا وسط صحراء قاحلة، في منطقة نائية لم يصلها ما يسمى بقطار التنمية بعد، هنا قصة شامخة لأناس ينتمون جسديا لهذا الوطن يئنون في صمت، لا ينتظرون لا مساعدات حكومية التي قد تأتي أو لا تأتي، لا يتطلعون لمناصب ولا لجاه ولا لسلطة، هنا أناس ورثوا عبقرية ضاربة في القدم، ألا وهي الخطارات، هنا تتحد الساكنة نساء ورجالا وشيوخا في تضامن إنساني إحياء لما يسمى "التويزة" في إصلاح وإعادة بناء وتأهيل الخطارات، وكلهم أمل في تأمين مستقبلهم المائي ومستقبل أطفالهم والأجيال المقبلة.
المكان دوار أيت محمد تينجداد، بإقليم الراشيدية، يقف أمامنا الشيخ محماد يحكي لنا عن تاريخ الخطارات وعن نظام اشتغالها، وكيف حافظت عليها الساكنة من الاندثار والانقراض.. يحكي لنا بأمازيغيته الجميلة كيف ساهمت الخطارات في المحافظة على نمط عيشهم، كما يتحسر على شباب اليوم الذي لم يعد مهتما بتاريخ الأجداد ولا يقدم حسبه أي شيء لخدمة الإنسانية.. يتحدث بفخر وباعتزاز عن الخطارات حيث يعتبر أن ماءها أحسن من ماء الصنابير.. بعض الباحثين يعتبرون أن أول من اعتمد الخطارات كنظام مائي للشرب وللسقي هم الفارسيون. أما في المغرب فقد تم إنشاء أول شبكة للخطارات بمراكش سنة 1106 من قبل البناء عبد الله بن يوسف، الذي قدم من الأندلس، قبل أن تشهد تطورا كبيرا في عهد حكم الموحدين ومن تعاقبوا بعدهم على حكم المغرب. في حين نجد باحثين آخرين يعتبرون نظام الخطارات نتاجا لعبقرية الإنسان المغربي في تدبيره ويشككون في أصلها الفارسي والأندلسي، حيث يعتبرون أن الفضل في تواجد واحات النخيل وأشجار الزيتون بالصحراء المغربية، يرجع إلى هذا النظام التقليدي لتعبئة المياه.
الأستاذ الباحث في البيئة لحسن كبيري، يعتبر أن الخطارات بجهة درعة تافيلالت التي تمثل تراثا لا ماديا حقيقيا وخبرة عريقة في مجال جلب المياه الجوفية لعبت دورا هاما ورئيسيا في تنمية المنطقة، وواكبت إقلاعها على مر العصور، تواجه خطر الاندثار وحسب كبيري، الذي يرأس أيضا "جمعية واحة فركلة للبيئة والتراث"، سبب اندثار الخطارات إلى الانتقال السوسيو-اقتصادي نحو نمط عيش عصري، فقد عوض هذا النظام التقليدي لتعبئة الموارد المائية الجوفية بآبار الضخ الحديثة التي تتسم بوفرة المياه وسهولة الضخ مما يشكل تهديدا لاستمرارية احتياطات الفرشات المائية على المدى البعيد.
كلام لحسن كبيري جاء خلال زيارة ميدانية لبعض الخطارات المائية بدوار أيت محمد تينجداد قام بها وفد صحفي بدعوة من الجمعية للوقوف على سير أشغال ترميم و صيانة الخطارات المتواجدة بتينجداد في إطار مشروع تنفذه الجمعية بتمويل من عدة شركاء دوليين، وبشراكة مع جمعيات ساكنة الدواوير والمداشر المتواجدة بجهة درعة تافيلالت، حيث قال إن هذه الخبرة العريقة التي اقترن ذكرها بسكان الصحراء أهمية كبيرة على المستوى الإيكولوجي، وذلك لأنها تسمح باستغلال عقلاني للفرشة المائية مع ضياع أقل للمياه وتكلفة إنجاز ضعيفة، عكس قنوات المياه التي تكون معرضة للكسو بالنباتات وتعد جد حساسة للأمطار وعرضة للأوحال، فإن الخطارات تسمح بجلب مياه نقية مع نسبة تبخر أقل، وكذا من الجبال نحو السهول وواحات النخيل الزيتون. ويدعو كبيري إلى صيانة وحماية هذه المنشآت وإدماجها في التنمية الحضرية وإعادة التهيئة الحضرية بما يسمح للساكنة المحلية من تجديد دون إتلافوازدهار نظام يتلاءم بشكل خاص مع المناطق ذات المناخ شبه الجاف ومناطق الواحات بالمغرب. شعور أليم وأناملك ترتجف على مصير من يعيش الغربة في وطنه، من يضحي بروحه للوصول إلى مرفأ الوطن، من يبكي في الخفاء وهو في انتظار رؤية رونق يوم العيد يشرق من زاويته..
هنا قصة شامخة لن ينساها التاريخ، هنا حلم بسيط أن تفك العزلة وتعود الطيور المهاجرة. من هنا تمنيت أن يتم تجاوز هذه المحنة ويفوح العنبر لينعش حياة كل مواطن يأمل بتقبيل الجبين الحي لهذا الوطن، وأن تمسح التجاعيد وترسم الفرحة بعد مرارة الغربة.. لأن أبشع ما في الوجود أن تموتالإنسانية وهي في محاولة للعيش..