من المفارقات العجيبة والغريبة التي يعيشها عالمنا العربي في شطريه الشرقي والغربي، حكايات لا تعد ولا تحصى من المهالك، ومآسي ترتعش لها النفوس وتقشعر لها الأبدان، بعد أن أضحت أوطاننا تلفظ أبناءها، وتضيق رقعتها، وتشد الخناق على شيبها ونساءها، وتزهق أرواح أطفالها وتغتصب براءتهم، ويرمى بهم في غياهب المجاهل وأودية النسيان، وتدنس كنائسها، وتحرق محارب مساجدها، ويقتل علماؤها، وتدمر آثارها. بعد أن كنا بالأمس القريب، نحفظ للشيخ وقاره، وللعالم قدره، وللكتاب قدسيته، وللمرأة عذريتها وإنسيتها، وللجمال رونقه، وللشعر وزنه، وللفن حلاوته. وتحول الشيطان الذي كان يسكن بيننا في وديان الدسيسة، وكهوف الرذيلة، ومخافر المؤامرات الخسيسة، يقتات من وقود الرمال والصحاري العاتية التي لا تبق ولا تدر، حيث أصبح ذو شأن، يختار من بين ظهرانينا من يصنع معه الجريمة، شعاره إيمان أجوف وخوار، وقبلته جماعة وإمامه شيخه المختار .
جعل الكلمة التي كتبت بها آيات الرحمان في أسمى معاني الكمال والإتقان، ورددت بها قصائد الشعر ومعلقاتها، التي تناقلتها الألسن بين الأمصار والركبان، وترجمت بها فلسفة اليونان وعمارة الروم والفرس بالتمام، ونظرية الفيض لابن الفارابي ومنطق ابن رشد في أجمل المفردات وحلو اللسان، ودونت بها فتوحات ابن العربي والحلاج وغيره من المتصوفة الأخيار، ودبجت بها مقدمة ابن خلدون، وما كشفت عنه من العبر والأخبار، ووصفت بها رحلات ابن بطوطة وما روت عنه من عادات، وعجائب القوم وغيرها من الأقطار، وعددت بها مناقب الزوايا وشيوخها، وطهرانية فقهائها وعلمائها الأعلام، وغيرهم من أصحاب الفكر وعلم الكلام .
تحولت كلمتنا إلى سيف قاطع، يختار الضحية، ويكتنز الغنيمة، همه الجماعة، وظله الخلافة، وسعيه التجارة، وإن أحرقت الأوطان.
لا أكاد أصدق وسأجن وسأصاب بالغثيان، بعد أن تبدلت حدائق الشام، وخضرة سهول دجلة والفرات، وما حوت من آثار وتراث، إلى خراب ودمار تنعق فيه الغربان، بعد ليل بهيج وقمر ساطع وضاء، تتقاسمه أنامل العود وقوافي الشعراء في قصور بني أمية والعباس .
كانت كلمتنا دالة مفعمة، تتسع للكل دون ضيق وعناء، منطقها فكر سليم، ودين رحيم، ورب كريم، وأناسها بسطاء كرماء، يضمنون للضيف راحته، وللغريب منزلته، لا يقسون على شيخ، ولا يرجمون معتد، يقتسمون رغيف العيش حتى مع من خالفهم الرأي والمشورة. كلمتنا دالة جامعة، لا فيها ملل ولا نحل، ولا خلافة ولا جماعة، يخطها قلم نحيف عفيف، حبره طعم لزج، في رسومه تاريخ حافل بالمسرات، وفكر واضح، ودين وسطي معتدل، لا يجادل في مداده جاهل ولا يقسو على حامله جاحد .
يا حسرتاه! على بني جلدتي، ضيعوا الأوطان خلسة، وسوقوا لغيرهم الأوهام، وبنوا فردوسهم على الكذب والبهتان، وعرابهم في الضفة الأخرى، يفترش الجماجم، ويركض فوق الجثة والأشلاء، يقارع كؤوس النديم، ويشد على نجديه منتشيا بالفرح، يلتحف رايته، يعانق شيطانه اللعين أبن اللعين، ويضرب على كتفي صبيته الذين أكملوا المراد وزرعوا الفتنة وضيعوا العباد .
كلمتنا مكلومة، يكتم أنفاسها غيض شديد من كثرة الذل والهوان، وقلمها حائر تائه يصارع الويلات، وصرنا شعوبا وقبائل شتاتا، في منافي المهجر وأقاصي الدنيا والطرقات، نتسول رغيف العيش بعد أن كنا أسياد الدنيا، نزرع الحب ونبني الإنسان والنفس والعمران، أمسينا بلا وطن، تحمينا سماؤه من صروف الدهر وأيامه العجاف .