رشيد الودغيري ابن مدينة فاس، فنان مطرب متخصص في "الآلة الموسيقية الأندلسية" ومؤطر في مجال تراث الموسيقى الأندلسي ومنشد في السماع والمديح، متشبع بمبادئ هذا الفن النظيف كما يصفـُه. يقول أنه هاجر من مدينة فاس العاصمة العلمية في اتجاه العاصمة الاقتصادية (الدار البيضاء)، للبحث عن أفق أوسع للاشتغال فنيا. اختار "الودغيري" أن ينقل التراث الأندلسي الموسيقي إلى فضاء المؤسسات التعليمية الخاصة، لتمكين التلاميذ من الانفتاح على الموسيقى الأندلسية والسماع والمديح، ويقول أن المدرسة هي أحسن فضاء لتهذيب روح الطفل عن طريق "الفن الروحاني"، كما يُضيف أن هدفه الأسمى هو تبليغ رسالة فنية راقية وزرعها في نفوس الأطفال، ويؤكد أنها تستمد مقوماتها الأدبية والأخلاقية والفنية، من الإلمام بالسماع والمديح، بعيدا عن الأغاني الماجنة والرقصات المبتذلة التي تفسد ذوق الصغار قبل الكبار - على حد تعبيره -.."أنفاس بريس" التقت بـ (الفنان رشيد الودغيري) وكان معه هذا الحوار..
كيف نشأت علاقتك بتراث الموسيقى الأندلسية والسماع والمديح؟
جالستُ شيوخ السماع والمديح والآلة الموسيقية الأندلسية، وزرعوا في نفسي حب هذا التراث الحضاري الراقي وحلاوة الشعر والموسيقى والعزف والحوار، فقررت أن أنقل هذه الرسالة الراقية للناس وخصوصا للأطفال على اعتبار أنهم رجال الغد، وكانت أمي العزيزة جزاها الله خيرا، قد اكتشفت مبكرا أني مولوع بالتراث الموسيقي الأندلسي والسماع والمديح، فشجعتني على الالتحاق بالمعهد لصقل موهبتي والاستفادة من التكوين العلمي والتقني في المجال.
لماذا هاجرت من مدينة فاس مهد التراث الموسيقي الأندلسي والسماع والمديح ببلدنا والتحقت بمدينة الدار البيضاء، المعروفة بالألوان الموسيقية الخفيفة وبسوق الأغاني التي تهدف أغلبها وأشهرها إلى الربح المادي على حساب الذوق الفني؟.
في فاس لم أجد أفقا ومجالا للاشتغال بجدية، فهي للأسف مدينة ضعيفة جدا، على المستوى المادي والتظاهرات المُصنفة في خانة الأنشطة الثقافية والفنية، فقررت السفر للدار البيضاء، لأنها كما لا يخفى على الجميع تعرف حركية ودينامية في مجال الفن والنشاط الثقافي، وبها أيضا جمهورا واسعا من كل المدن والفئات الاجتماعية. اخترت أن أبلغ رسالة التراث الفني الأندلسي والمديح للتلاميذ لأن التعلم في الصغر مهم جدا ويعطي نتيجة مضمونة في المستقبل، وأقول أن الشجرة قبل أن تنمو يتم الاعتناء بسقي جذورها منذ بداية غرسها، لكي تقف في المستقبل شامخة، أقيس ذلك على زرع التراث الفني في نفس الطفل، لكي يكبر معه ويصبح ذواقا ومهتما به في الشباب، ويكون خير خلف لخير سلف في المجال التراثي، على المستوى الفني والأخلاقي ويحمل المشعل وهو على دراية تامة بقيمة الرسالة التي تلقاها منا، كما تلقيناها من الرواد والشيوخ الملهمين لنا ولمن سيأتون بعدنا.
كيف يتفاعل تلاميذ المؤسسة التعليمية الخاصة التي تشتغل بها في مجال التأطير والتدريب على الموسيقى الأندلسية والسماع والمديح؟ وكيف هي علاقتك بالإدارة وآباء وأمهات التلاميذ؟
أكرر أن أحسن فضاء لتلقين مبادئ هذا التراث هي المؤسسة التعليمية، اتصلت ببعض المسؤولين عن هذه المؤسسات وتحديدا بمدارس لحلو، وبالسيدة المديرة منية الصقلي، وشرحت لهم فكرتي ومشروعي الفني التراثي، ووجدت ترحيبا كبيرا، ليس فقط من طرف الإدارة، بل أيضا من طرف آباء وأمهات التلاميذ، لأن الموسيقى الأندلسية والمديح فن روحاني يهذب الروح لاسيما أن نفسية أغلب التلاميذ حاليا تعرف مجموعة من الاضطرابات، بسبب القلق والانفتاح المبكر على عوالم تفوق سنهم، مثل الإنترنت وتزايد نسبة الإقبال على التكنولوجيا والألعاب الإلكترونية، الأطفال يتجاوبون بطريقة عفوية مع التراث الموسيقي ومع المديح والسماع، وأغلبهم يندمج بسرعة في الحفظ والإنشاد، وأسجل حسب تجربتي الخاصة، أن الطفل يدرك الدوق الرفيع بالفطرة.. يبقى فقط على المؤطر أن يكون ملما بما يقدمه لهم من دروس فنية وتمرينات في الحفظ والأداء وأن يخاطبهم بأسلوب راقي ويحترم رأيهم - يضحك - ويتجاوب بسعة صدر وبرفق مع كثرة أسئلتهم ويشجعهم ويحفزهم على تطوير موهبتهم - وفي ذلك فليتنافس المتنافسون -.
إذا استثنينا بعض الفنانين والمنشدين القلائل في مجال التراث الأندلسي والسماع والمديح مثل المرحوم "عبد الصادق شقارة" الذي كان يدمج التراث مع التراث العالمي (التراث الإسباني) تحديدا ولازال مغنون شباب يرددون أغانيه، لم يستطع جيلكم الجديد البروز بشكل ملفت في الساحة وتحقيق النجومية.. لماذا حقق القليل من فناني التراث النجومية عكس فناني الشعبي والأغنية الخفيفة الدين يكتسحون الساحة الفنية حاليا؟
لم نعط اهتماما كبيرا لتراثنا للأسف وأتحدث عن الجميع، وليس فقط الفاعلين في المجال. المرحوم "شقارة" علامة بارزة في التراث الشعبي الأصيل الأندلسي. له أسلوب نقي في العزف وطريقة خاصة به، وأعطى الكثير وأحفظ أغانيه، وفيها معنى وهدف، أنا متخصص في الآلة وفي المديح والسماع.
لكن أنت منشد ومطرب وملم بالتراث الأندلسي وشاركت في حفلات خاصة بهذا اللون التراثي وتملك صوتا وأداء يرى العديد من المتتبعين والنقاد أنه صوت مُتمكن من أدوات الإلقاء والطرب.. ما هو موقعك في الساحة الفنية؟ وهل تشارك في الحفلات التي تعرض بالتلفزيون والمهرجانات الكبرى؟ أم أن تأطير الأطفال انتزعك من تقديم العروض الفنية؟
لا أخفي عليك أني أبدل جهدا كبيرا للتركيز مع الأطفال، لكن أصارحك أن اللقاءات الفنية والثقافية لا تهتم كثيرا بهذا التراث الحضاري، فتجد (عود دردك زيد دردك) طاغية في الساحة. أقول ما قاله أجدادنا : (الجديد لو جدة والبالي لا تفرط فيه) والجديد يجب أن يكون راقيا ونظيفا، فحتى نماذج السيارات القديمة يتم إعادة إحياءها لكي تتناسب مع العصر، بحكم أن لها جودة مميزة وذوق رفيع. للأسف الذوق الفني يفسد يوما بعد يوم ويؤثر على الأطفال.. في المهرجانات والإعلام لا يأخذ تراثنا حيزا معقولا.
أنت تطالب إذن بإحياء التراث (الأندلسي والسماع والمديح) وإعطاءه اهتماما على مستوى الإعلام والمهرجانات، لكن الجمهور يقبل بشكل كبير على الأغاني الخفيفة ولا يهتم بالأغاني التراثية.. ألا ترى أن فناني التراث لا يقومون بمجهود لتطوير وإحياء الفن الأصيل لكي يصل للجمهور؟
يضحك .. "للناس فيما يعشقون مذاهب".. أنا لست ضد أن يطلع الجمهور على كل الألوان الفنية الموسيقية، لكن لا يجب أن نحاصر الفن الأصيل، فقط على الناس أن ينصتوا له ويهتموا به و "ايْردًّوا علينا الخْبَارْ"، كل موسيقى وكل لون غنائي وكل شعر وراء إبداعه هدف معين، لكن يجب أن نتمعن في الموسيقى الراقية والشعر الراقي وأن يتم فتح الباب لهذا الشكل الإبداعي الأصيل لكي يقول كلمته، فمن يتناسى تراثه الحضاري يصبح بلا أصل وبلا هوية. وأسجل أن المتمكنين من التراث الأندلسي والسماع والمديح هم حاضرون، ويشتغلون بشكل متواصل وبجهد كبير وهم قريبون من الناس ويملكون أدوات التواصل ويقدمون عروضا وأطباق فنية راقية، بذوق عال وإتقان..
هل ترى أن مسؤولي وزارة الثقافة ووزارة الإعلام يهتمون بالتراث الحضاري الموسيقي للوطن؟
لا أملك جوابا شافيا.. هناك زوبعة كبيرة ولا نعرف أين هو المشكل؟. وكما يقول الدكتور عبد الكريم برشيد (هناك الفن واللافن)، أقول أنه يجب علينا الاهتمام أكثر بالفن الراقي، لأن هذا النوع الجميل يؤثر في النفس بشكل إيجابي ويهذب ذوق الأطفال ويرفع من سمو ورقي المجتمع.