بهذا المقال الثالث، يمكن اعتبار الفقرتين المتعلقتين بالجهاد في رسالة أمير المؤمنين إلى مؤتمر الأقليات الدينية بمراكش، أنها تمثل مشروعا للاشتغال، وقد تعززت بتعليمات أمير المؤمنين في المجلس الوزاري بالعيون 6/2/2016، لوزيري الأوقاف والتربية الوطنية، بمراجعة مناهج وبرامج تدريس التربية الدينية، وهي التعليمات التي جاءت كترجمة فورية لإعلان مؤتمر مراكش، وهو يدعو: "المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية، القيام بمراجعة شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدي لأخلاق الثقافة المأزومة التي تولد التطرف والعدوانية، وتغذي الحروب والفتن، وتمزق وحدة المجتمعات"، كما جاءت كتتويج لمختلف القراءات لرسالة أمير المؤمنين، أو للبيان الختامي لهذا المؤتمر.
سأترك جانبا جاذبية الحديث عن هذه التعليمات، للتقيد بما رسمته سلفا من ترانيم قول الجهاد، في رسالة مراكش لصاحب الأمر. وأعتقد أن مشروع الاشتغال في ظل هذا القول، هو في حاجة إلى ثلاث رافعات:
- إعادة النظر في ظهير إعادة تنظيم جامعة القرويين. وقد سبق لي أن عبرت في إبانه، عن تحفظاتي تجاه هذا الأمر، "الذي ستأخذ بموجبه وزارة الأوقاف، الاسم/ الإطار، لتأثيث إحداثياتها وشرعنتها، في حين ستحتفظ وزارة التعليم العالي بالكليات التابعة للقرويين، خدمة للتمدد الأصولي المريح، هنا وهناك. في حين كان من المنتظر، إشراف وزارة الأوقاف، على القرويين اسما ومسمى، وحتى على شعب الدراسات الإسلامية بكليات الآداب، على الأقل من منظور مرعيات هذا البلد الأمين، على نحو ما قرره نقيب الشرفاء العلويين، المؤرخ ابن زيدان بقوله: "وللتعليم الديني مجلس إدارة في البلاط".
واليوم يتطلب تفكيك مفهوم الجهاد وإعادة تركيبه على مستوى العقائد والفقه، على أرضية منظومة الإصلاح المتكاملة، مسالك لهذه الغاية، تستوجب استدراك جوانب النقص في هذا الظهير بإلحاق كليتي أصول الدين والشريعة، بجامعة القرويين، كما كان الأمر في السابق، ليس فقط لخلخلة غلبة التوظيف الأصولي للجهاد على أرضية مفاهيم الولاء والبراء، والحاكمية، وتوحيد الربوبية، بل لإعادة صياغة كل المفاهيم الدينية، للملاءمة مع خصوصيتنا وحاجياتنا الحقيقية في المغرب.
- إشاعة ثقافة السلم والتعايش، أولا استجابة لقوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين". ومن هذه الخطوات ما نقف عليه مثلا في الثقافة التربوية للمرويات المنقبية: "وقد روي أن على رأس إبليس الشيخ اللعين، تاجا عظيما، فإذا اجتمع عليه الشياطين يقول لهم: أين فيكم صاحب هذا التاج؟ فيقول كل واحد: أنا صاحبه. فيقول: صاحبه من عمل خصلة عظيمة. فيقول واحد: ما جئت حتى زنى فلان. فيقول: ليس هذا من الكبائر. الزاني يتوب ويرجع. ويقول آخر: ما جئت حتى شرب فلان الخمر. فيقول له: يتوب ويرجع عن الخمر. ويقول آخر: ما جئت حتى سرق فلان. يقول: يتوب ويرجع عن السرقة. فيقول آخر: ما جئت حتى شتم فلان والده. يقول له: يتوب ويرجع عن الشتم. ويقول آخر: ما جئت حتى طلق فلان زوجته. يقول له: يردها. ويقول آخر: ما جئت حتى قتل فلان فلانا. فيقول: أنت صاحب التاج. فيأخذ اللعين التاج من على رأسه، ويضعه على رأس هذا، ويقول له: أنت صاحب الخصلة العظيمة". فالقتل، وهو فعل شيطاني، لا يأتي من فراغ، بل هو يتغذى من مقدمات ثقافة الكراهية والعنف والتمييز والتكفير.
ولا تتوقف إشاعة ثقافة السلم على رصيدنا الديني والثقافي، بل تتوقف ثانيا على القيم الكونية، من خلال النهوض بثقافة حقوق الإنسان، للقضاء على نوازع الشمولية، التي تهدد بقبضتها العسكرية الأصولية، بنية الدولة المدنية في المغرب. وهذا جانب يقتضي انخراط المجلس الوطني لحقوق الإنسان في معركة التأصيل لهذه الثقافة، من خلال الوعي أولا بأصول التطرف والغلو، والاستبداد، خدمة للاعتدال والتسامح والديمقراطية، أو من خلال المساهمة ثانيا، في تأهيل المناهج والبرامج التعليمية، خدمة لمفهوم المواطنة.
- إعادة النظر في الكتاب المدرسي، لتجاوز جملة من الاختلالات، ليس هنا أوان بسطها. إذ سبق لي في أسبوعية "النشرة"، أواسط تسعينيات القرن الماضي، أن اعتبرت إدراج درس الجهاد في مكون "العقائد" يعتبر خطأ من الناحية المنهجية، وفق اختيارنا المذهبي، ويعتبر خطأ كذلك من حيث تقريره كمبدأ لحسم الخلافات الداخلية. وقد بينت، عقب تفجيرات الدار البيضاء الإرهابية 2003، في "الأحداث المغربية" من خلال مقال: "من صلاحيات أمير المؤمنين تخصيص النصوص الشرعية"، الحاجة إلى بناء منظومة تربوية كمطلب ملح في مغرب العهد الجديد، بالنظر إلى مراهنة الأصولية على البرامج التعليمية. وقد تفاعلت في هذا المقال مع ما كتبه المرحوم محمد عابد الجابري حول: "آيات القتال، والنسخ والعموم والخصوص"، بـ "الاتحاد الأسبوعي"، وذلك بغاية "ترتيب خلاصات أخرى من منطلق أصول الفقه في المغرب". وقد رتبت على هذا التفاعل "أمرين اثنين: أولهما: صلاحية أمير المؤمنين بشأن تخصيص النصوص الشرعية للمصلحة، في ظل الحاجة إلى الإصلاح الداخلي، تأخذ بعين الاعتبار التراكم الحضاري للمغرب، وفي ظل الحاجة أيضا إلى التعايش والتساكن بين الأمم والشعوب والديانات، تأخذ بعين الاعتبار وجود منتظم دولي له مواثيقه وأعرافه. ثانيهما: أهمية الاهتمام بأصول الفقه المغربي لإنتاج الفهم السليم للمستجدات". وقد تم لاحقا في مراجعة مادة "التربية الإسلامية" حذف درس الجهاد، لكن المخطط الأصولي احتفظ بأدلته متناثرة هنا وهناك في الكتاب المدرسي. وفي تقديري يجب إخضاع جميع المفاهيم الدينية ذات الصلة بالمعاملات، وفي طليعتها الجهاد، لمنهجية "السبر والتقسيم"، في مقاربة السياق.
يمكن أن نجمل من كل ما سبق، أنه لترشيد فهم الجهاد، في سياق النهوض بثقافة السلم والتسامح والتعايش، لابد من إعمال صلاحيات مرجعية إمارة المؤمنين، ومبادئ الإسلام الداعية إلى السلم، وضبط مسالك إنتاج الخطاب، سواء تعلق الأمر بالمؤسسات أو آليات الاشتغال. وأكيد أن هذه العناوين ستحيلنا رأسا، على تعليمات أمير المؤمنين بمراجعة مناهج وبرامج تدريس التربية الدينية.
لكن ما دام الإصلاح منظومة متكاملة لا تقبل التجزيء، وما دام الإصلاح أيضا، صيرورة نضالية، تخضع لمنطق التراكم، فما زالت هناك نقط في جدول الأعمال، لا يجب القفز عنها. ويتعلق الأمر بمقتضى خطاب العرش 2015، في الجانب الديني. فكم هو هذا البلد الأمين/ الآمن، في حاجة إلى لغة الحقيقة !