منذ انطلاق الحراك الفبرايري بالمغرب، كامتداد وتتويج متواصل ومستمر في الزمان والمكان، بدأت معها فرص ذهبية لفائدة الأحزاب المحصاة في الصف التقدمي، قصد العمل على رد الاعتبار للبعد الاجتماعي في هوياتها الحزبية، وأطلقنا كمجتمع حقوقي جذوة تحصين قيم الكرامة والمساواة بمطلب العدالة الاجتماعية كشعار ووعاء يمكن أن يستوعب الحماس ويؤطره في اتجاه خدمة الحرية والحق في المشاركة، وليس العكس.
وبغض النظر عن التسويات الخاطفة السرعة، والتي استهلكت، وجرت مع حاملي المطلب الثقافية واللغوية، وكذا النقابات والتعبيرات الشبابية والنسائية على الخصوص، فإن الحقوقيين حرصوا على استغلال "الموعد مع الجغرافيا السياسية" لفرض مقتضيات الباب الثاني من الدستور صكا للحقوق، رغم تهريب مطلب مدنية الدولة وحرية الاعتقاد عشية الاقتراع، بحكم انشغال الأحزاب بأجندات ضيقة الأفق، برهنت بها عن عجزها عن مواكبة الحد الأدنى المتوفر توازنا، وظلت في معظمها تركز على «حقها» في البقاء في المشهد.
والحال أنه كان مطلوب منها أن تبذل مجهودا قليلا لتفعيل الشق السياسي من توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، مع استثناء الهيئات والتنظيمات السياسية التي انتدبت شبابها لتمثيلها في الحراك الفبرايري. وفي هذا الصدد تقدمت الدولة بعروض من أجل التوافق على خط مرحلي، سمي إصلاحا، وكان التجاوب ضعيفا والتفاعل فقيرا من حيث المحتوى..
وعوض البناء للعدالة الاجتماعية كمدخل لترسيخ مطلب الانصاف والمساواة، اكتفى الصف التقدمي بالترويج لما يسمى بالحداثة، دون العمل حقيقة على إشاعة الفكر النقدي داخل التنظيمات. وإذا كان معروفا في الأدبيات السياسية أن الإصلاح يأتي كعرض من قبل الدولة، وأن التغيير يطرح كعرض مقابل من قبل المعارضات الحزبية، فإن العقل الأمني نجح في امتصاص النقمة من خلال تمكين جناح من «المعارضة» المحافظة من حق وقتي لتدبير الشأن العام دون صلاحيات فعلية في الواقع، ولكون هذه الأخيرة انشغلت بمعركة ضمان الاستقرار والاستمرار في السلطة. وبحكم علاقتها المتوترة مع حقوق الإنسان، فقد وقع ما يسمى اليسار في تيه قل نظيره، ليس فقط بسبب الهشاشة التنظيمية ولكن أساسا لانعدام شرط التواصل والحوار البيني، فحضر التاريخ وانتصبت أقفاص الاتهام ومقصلات الإقصاء باسم تملك الحقيقة الثورية، ولعب الإعلام المأجور دورا حاسما في تأجيج الفرقة والخلافات، وعاين الجميع ارتداد الحراك وخفوت الحماس، دون أن نتخذ المبادرة للتقييم الحقيقي لما جرى ولتداعيات مسلسل الحراك و سيناريو الإصلاح..
ومن غير أن ننتبه تم تغرير مكونات الصف التقدمي، وانطلقت المنافسة حول من يمثل اليسار أحسن، ليس حول ما تتطلبه استراتيجية النضال الدمقراطي، كشرط ذاتي، من قيادة سياسية بمرجعية وريادة فكرية، ولكن بمنطق ما يتطلبه المشهد سيميولوجيا كاشتراط موضوعي.
وبالنظر إلى الظرفية المؤطرة بالتحولات الإقليمية وموازين القوة الناتجة عنها داخليا، فإن التنافس مشروع لإثبات الذات أو فرضها، حسب السياق. وتبقى الوحدة كمدخل لتنسيق الجهود ضرورية لإيقاف نزيف الشتات والشقاق، لكن دون أن نقع في فخ تبرير «الاصطفاف» غير الطبيعي بعلة ضمان الاستقرار للوطن، مواجهة الخطر الخارجي..
والحال أن القدر المسموح به شرعيا وعقلانيا هو تقوية الدولة، بدل الترخيص لتقوية النظام السياسي، مادامت دمقرطة الدولة ممكنة، في وقت يكتفي النظام السياسي بالترويج لإمكانية تحديث نفسه ضمن معادلة التكيف بدل التحول المنشود.