قد نلاحظ أن الشكوى الدائمة بخصوص علاقة المسؤول بالمواطن المغترب تتكرر في عدة مناسبات، وفي مختلف المنابر، رغم الدعوات من رأس الدولة لتأكيد، في كل مناسبة، ضرورة تفاني الموظف السامي في خدمة المواطن.. والسبب في هذا الاهمال يعود بالاعتقاد أن الوظيفة العليا من وزير ووكيل ومدير عام في الدولة أو الشركات وحتى القضاء الذي يفترض أن يكون المسؤول فيه على درجة عالية من المعاملات الإنسانية والتقدير لمن يقصدونهم من اجل قضاء مطلب من مطالبهم، يرون أن الوظيفة تميزهم اجتماعياً وطبقياً عن الناس، فلا يعيرون لهذا الاعتقاد أي قيمة للعلاقة الإنسانية التي يجب أن تجمع ما بين الموظف والمواطن، فيؤسسون تبعا لذلك لعلاقة تفضيلية بين فرد وآخر، ويتعاملون مع المواطن بتعال لدرجة تجعلهم يتمعنون في صد المواطن واهمال شؤونه..
سبق لي أن كتبت في مناسبات أخرى، في نفس الموضوع، ولو بطريقة مقتضبة، عن هذه العلاقة السيئة بين المغترب في الخارج وسفاراتنا، وهي النموذج الوظيفي والتربوي لأجهزة الدولة الأخرى في الداخل، حيث الاهتمام بأي شكوى أو حادثة عامة لا تجد الرعاية الصحيحة، يضاف لها عقدة كبرياء الصفة الدبلوماسية التي يراها الموظف بدلاً أن تكون مهمة عمل وتفضيلاً متبعاً بين الدول من أجل الوصول إلى الدوائر في البلد المضيف بدون تعقيدات.. لكن للأسف نرى من طرف من يمثلونها العكس، وهذا التناسخ بين عمل الموظف والمسؤول في الداخل والخارج، لا يضبطهما معيار معين يقاس على الأداء والعلاقة الصحيحة التي يمثل فيها دوره كعامل بأجر ولخدمة وظيفته، وتحدد فيها العلاوة والترفيع، بل ولا توجد روادع تضع طرفي العلاقة على نفس الدرجة والمساواة في الحقين العام والخاص.
هناك آداب العلاقات الإنسانية التي أفردت لها دراسات وتطبيقات عديدة ولا تزال تأخذ أهمية كبيرة عند علماء النفس والاجتماع والإدارة، حتى أن مبدأ المحسوبية أو صلة القرابة أو غيرهما التي تجعل الواسطة تأخذ اتجاهاً تصاعدياً، لا تفترق عن الرشوة بالمفهوم التشريعي والنظامي.. ولذلك نجد من يغلق مكتبه، أو يتجنب مباشرة الحديث للناس وفهم مطالبهم، بذريعة تراكم المسؤوليات والعمل، وهي صيغة من صيغ الهروب في مواجهة القصور في العمل المناط به..
الموظف المتوسط والصغير، هو نموذج لرؤسائه، ولذلك حين يتعمد التعقيد أو التطويل بالإجراءات أو الإحالات الطويلة في دورة العمل، إنما يريد الهروب من الواجب أو يجد لذة خاصة تجعله شخصاً مهماً، فيتساوى مع رئيسه أو وزيره، وهي عقد متراكمة من مدرسة الإدارة التي لم تتطور وبقيت أسيرة تراكم التعقيدات الموروثة من البدايات الأولى لتأسيس أول عمل إداري..
نعود لمسألة العلاقة المرتبكة وكيف نتجاوزها، وأعتقد أن المشكل ليس فقط في الإدارة أو الوزارة، وإنما بأجهزة الرقابة التي لا تمارس دورها الحقيقي.. والدليل أنه منذ سنوات طويلة لم نر أو نقرأ عن جزاءات رادعة لمسؤول كبير أو صغير، رغم ما يسود من فساد إداري وتجاوز للأنظمة، وتعطيل لمصالح الناس واعتبارهم مجرد أصفار محذوفة من الأهمية. ولذلك ما لم تكن هذه الأجهزة بمستوى المسؤولية، فإن العجلة ستدور، والخاسر المواطن البسيط الذي لا يحصل على واسطة!!