تحكي لنا كتب التاريخ أن الشاعر العربي الأعمى - بشار بن برد- كان سليط اللسان بحيث لا يكاد يسلم أحد من هجائه. و كان الناس يقدمون على أبيه - برد- الذي كان فقيها و حافظا لكتاب الله تعالى مستاءين و مشتكين من تصرفات هذا الإبن الذي يهجوهم كل وقت و حين بسبب أو بدونه. تصوروا معي كيف يكون رد و جواب الأب الفقيه: "ماذا عساني أن أفعل ؟ ألم تسمعوا قول الله تعالى في كتابه العزيز: ليس على الأعمى حرج؟" (لأن بشارا أعمى بطبيعة الحال). فينصرف الناس مستاءين و قد استشاطوا غضبا مرددين مقولتهم الشهيرة: "فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار" .هذه الحادثة الطريفة تنطبق على إخواننا الأساتذة المتدربين الذين تعرضوا لأبشع صور العنف، بل لعنف خلف عاهات مستديمة مثلما خلف استياء عارما و أسى بليغا لدى عموم الشعب المغربي، بل تجاوز صدى هذه الاعتداءات الغير المبررة التي كنا نظن أن زمنها ولى إلى غير رجعة مع العهد الجديد، حدود الوطن و تناقلتها وسائل إعلام أجنبية و استغربتها منظمات دولية و بالتالي أساءت إلى صورة بلدنا المغرب في عيون العالم. بأي شرع إذن ترتكب هذه الجرائم في حق هؤلاء المساكين الذين خرجوا للتعبير عن موقفهم من مرسومين مشئومين يرون فيهما حيفا و ظلما يهدد مستقبلهم المهني و ينزع منهم الحق في التوظيف ؟ بأي ذنب إذن نأخذهم و قد خاضوا قبل ذلك أشكالا نضالية تمثلت في الاحتجاجات و التوقف عن الدراسة، فلم يسمع لهم أحد و لم يفتح معهم حوار و لم تلامس صيحاتهم أسماع المسؤولين و كأن لا حياة لمن تنادي في مغرب القرن الحادي و العشرين ؟ لكن الغريب و المستغرب من كل هذا هو تصريح و رد فعل رئيس حكومتنا الموقرة إزاء هذه الأحداث الأليمة، الذي عوض أن يعتذر للشعب المغربي و يطالب بفتح تحقيق فوري في أقرب الآجال و محاسبة المسؤولين و المتورطين في هذا الترهيب الهمجي، نراه يحاول أن يحجب الشمس بالغربال و يخرج بنا من سياق الأحداث إلى سياق آخر لا يتناطح حوله كبشان . نعرف قبلك يا رئيس حكومتنا الموقرة أن الأمن نعمة من نعم الله سبحانه و تعالى، و نقدر رجال الأمن الذين يسهرون على أمن المواطنين و حمايتهم من الإرهاب و شتى أنواع الجريمة، إنهم فوق رؤوسنا و لهم منا كل التحية و التقدير . فلا جدوى إذن أن تذكرنا بكل هذا و كأن الأمن هو المظلوم . و كأن الأساتذة هاجموا رجال الأمن بالحجارة و السيوف و ما شابه . لم يحدث شيئ من كل هذا و كل ما في الأمر أن الأساتذة المتدربين خرجوا كعادتهم منذ صدور المرسومين المشئومين لممارسة حقهم في التعبير و أعتقد أنه حق يكفله و يقره دستور 2011، و فوجئوا كما فوجئنا بما لم يقع في الحسبان . فهل وظيفة الأمن يا ترى زرع الخوف و ممارسة العنف و ترهيب الأبرياء ؟ قد نلتمس لرجال الأمن الأعذار لأنهم و بكل بساطة يتلقون أوامر عليا و تعليمات من فوق يكونون ملزمين مهنيا بتنزيلها و تطبيقها، لكن لن نعذر رئيس الحكومة لأنه يبرر ما لا يبرر و يفسر ما لا يفسر ! و العجيب أنه يجهل إلى جانب وزيره في العدل من أعطى التعليمات و الأوامر ! أليس رئيس الحكومة من ولاه الشعب على أمور البلاد و العباد ؟ أين أنت يا رئيس الحكومة من سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه الذي يخشى أن يسأله الله يوم القيامة عن بغلة عثرت بأرض العراق لأنه لم يسو لها الطريق ! أما قولكم يا رئيس الحكومة أن الأساتذة المتدربين لم يحصلوا على رخصة فمعناه ضمنيا أنكم توافقون على هكذا عقاب أو يعني فيما يعنيه تهربا من المسؤولية و تحميلها للأساتذة البؤساء الذين سدت في وجوههم الآفاق و ضاقت بهم السبل و الأرض بما رحبت فلم يجدوا بدا من النضال لأنهم بكل بساطة و لعلمكم فقراء و أبناء فقراء ليس لديهم ما يفقدون و لا يملكون إلا شهامة و لا يريدون إلا كرامة تستحق مثل هذه التضحيات و الاحتجاجات السلمية و الحضارية . و العاطل أو المعطل و الجائع و الفقير البائس لا يحتاج حين يعزم على انتزاع حقوقه و استعادة كرامته إلى رخصة أحد أو موافقته.و هنا أذكركم معالي رئيس الحكومة بمقولة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه فلا يخرج على الناس شاهرا بسيفه". أنا هنا لا أحرض على العنف و حمل السيف للمطالبة بالحقوق بل أود أن ألفت عناية مسئولينا إلى خطورة ما يمكن أن يتمخض عن الفقر و اليأس و انسداد الأفق، و ما يمكن أن تؤدي إليه المعاناة من عواقب وخيمة لا تحمد عقباها . و لنا في ثورات الربيع العربي خير دليل على ما أقول. و كما تعلمون فإن أولها صفعة شرطية لبائع متجول بائس أحرق نفسه حينما سدت في وجهه الأبواب فشعر بالإحباط و أقدم على ما أقدم عليه ليكون ذلك بمثابة الشرارة التي أشعلت تلك الثورات التي لم تخمد إلى حد الآن . آن الأوان أن ينصت المسئولون لنبض الشارع عموما و يفتحوا قلوبهم لكل مشتك يحس بظلم و منهم أساتذة الغد الذين يستغربون في ظل الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم و ما يعانيه هذا القطاع على مستوى الموارد البشرية، مثل المرسومين المشئومين اللذين لسنا في حاجة إليهما في ظل الخصاص الذي نعانيه . إن جوابكم معالي رئيس الحكومة الذي لم و لن يشفي غليل الأساتذة الضحايا و عائلاتهم و معارفهم و كل من يتضامن معهم، أغيظ لنا من تلك العصي التي انهالت ظلما و عدوانا على رؤوس هؤلاء الأبرياء ! و لن أجد خير ما أختم به من بيت شعري للشاعر المغربي عبد الرحمان عبد الوافي و هو بالمناسبة شاعر إسلامي الذي يقول في ديوانه بائية الصحوة و الإضراب:
"إذا رأيت عيون الشعب شاخصة فاعلم أن صبر الشعب قد نضبَ"