مثل كرة الثلج تتدحرج وتكبر المطالبة الشعبية بإلغاء رواتب تقاعد الوزراء والبرلمانيين، التي باتت مصنفة شعبيا بدون تدقيق ولا تمحيص من مظاهر الريع السياسي في مجتمع سئم انتشار هذه المظاهر في كل مجالات الحياة، وبدا مصرا أكثر من أي وقت مضى على محاربتها أو فضحها في أضعف الإيمان، خشية أن يحصل في الموضوع ما حصل مع واقعة لوائح المأذونيات (الكريمات) عندما تمخض الجبل فولد فأرا.
وقد أبانت الإدانة الشعبية في وسائل التواصل الاجتماعي لمستوى "جوج فرانك" و"الاشتغال 22 ساعة" عن تألق كبير في إبداع المغاربة على مستوى السخرية المرة، مما جعل كثيرين يحاولون ركوب الظاهرة، وتبنيها في انتهازية سياسية وإعلامية مكشوفة تتضح من خلال إعلان تبني المطالبة الشعبية من دون تقديم مقترحات عملية لوقف هذا النوع من الريع أو ترشيده، وبطمس واضح لاستفادة قيادات من التنظيمات المذكورة من هذا الريع في مختلف أشكاله، وأكثر من استفادة واحدة في بعض الحالات.
ورغم محاولات طمس الموضوع وإقباره، فإن المطالبة الشعبية ستستمر لا محالة، وقد ترتدي أشكالا نضالية وتعبوية جديدة، سيما وأن مظاهر الريع منتشرة بكثرة، وتطال كافة المجالات الاقتصادية ومنشآت البنيات التحتية، لتصل إلى القطاعات الرياضية أيضا حيث تستفيد الفرق الكروية في زمن الاحتراف ليس فقط من الإعفاءات الضريبية بشتى أنواعها على المداخيل والأجور، وإنما من دعم حكومي سخي ومتعدد المصادر بدءا من الوزارة الوصية، مرورا بالجامعة الملكية المنظمة للعبة وصولا إلى مجالس الجماعات الترابية على اختلاف مسمياتها.
وكما هو معلوم تحظى هذه الفرق بكل أنواع الدعم من دون أن تكون قادرة على تقديم فرجة كروية في المستوى، وخلق نشاط اقتصادي وتجاري مفيد حولها، بل إن نشاطها بات يتسبب أسبوعيا في أحداث فوضى وتخريب متعمد. أحداث متكررة ومتنقلة، تتحدى هيبة الأمن وتعتدي على الممتلكات العامة والخاصة، وتثقل كاهل المحاكم بقضايا هي في غنى عنها مضاعفة الخسائر المادية والمعنوية، ومضرة بصورة البلاد وسمعتها خارجيا بلا فائدة تذكر.
وللأسف، فإن عمق السخرية الشعبية من مستوى انفعالات بعض الوزراء، وجدية المطالب المرفوعة قوبلت بردود فعل حكومية وبرلمانية شعبوية بالمعنى السلبي والمنحط لهذا المفهوم، الذي يتم تطبيق بعده الإيجابي والاجتماعي العميق بنجاح في عدد من دول أمريكا اللاتينية؛ الأمر الذي فوت على البلاد فرصة سانحة لتبني خطوات عملية حقيقية من شأنها تنفيس الاحتقان الاجتماعي المتصاعد، وقطع الطريق على أي احتقان آخر قد يحصل في المستقبل، خاصة مع ارتفاع العديد من المواد الغذائية الضرورية وبعض وسائل النقل.
لقد زاد الطين بلة ما نقل (صدقا أو تلفيقا) عن أحد النواب الذي استفزته المطالبة الشعبية المستندة على أسس موضوعية يمكن مناقشتها وليس الاعتراض عليها جملة وتفصيلا، فانفعل مستخدما كلاما نابيا متناسيا أن المواطنين يعلمون أنهم فعلا لم يزوجوه أخواتهم، ولكنهم أعطوه أصواتهم، وقادرون على سحبها؛ إلا إذا كان السيد النائب المحترم على يقين من أن هنالك من يؤمن له الأصوات ضدا على رغبة المواطنين. وهذا زمن عهدناه قد ولى منذ مدة طويلة.
وبعيدا عن الانفعالات السخيفة من حق الجميع التساؤل عن ذكاء الحكومة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية وتنفيس الاحتقان الناجم عنها. فما المانع أن تنتهز الحكومة هذه الفرصة لتعلن عن توجهها بمناسبة الانتخابات التشريعية المقبلة نحو تخفيض عدد أعضاء مجلس النواب على غرار ما حصل في مجلس المستشارين الذي تم تخفيض عدد أعضائه بأكثر من النصف من 270 إلى 120 من دون أن يتأثر أو ينتقد أحد.
وقد كان من الأجدر تخفيض عدد أعضاء مجلس المستشارين أكثر على قاعدة ممثلين اثنين لكل جهة من الجهات 12، واثنين أيضا عن كل من الغرف المهنية ورجال الأعمال وعدد موازي لمجموع هؤلاء عن النقابات العمالية لضمان المساواة. وحينها سنكون بغرفة ثانية في حدود الأربعين عضوا أكثر فاعلية ونشاطا وإنتاجية كذلك.
ولهذا كان حريا بالحكومة من منطلق مبدأ الترشيد تبني قاعدة 5 نواب عن كل مليون نسمة، وهي نسبة كافية حسب فقهاء القانون الدستوري. وحينها سيكون لدينا مجلس نواب مكون من 175 عضوا وليس 395، علما بأن معظم اجتماعات المجلس (باستثناء افتتاح الدورات) واجتماعات بعض اللجان لا يحضرها في العادة أكثر من نصف الأعضاء، وأن على سبيل المثال لا يتجاوز عدد أعضاء مجلس النواب الأمريكي بكل قوته وصلاحياته الواسعة والحقيقية 435 عضوا لأزيد من 300 مليون نسمة، وليس لعدد سكان لا يتجاوز 35 مليون نسمة.
وفي السياق ذاته ما الذي يضير الحكومة إن هي أعلنت عن تعديل القانون التنظيمي للحكومة نفسها وتضمينه نصا صريحا يحدد السقف الأعلى لعدد الوزراء بما لا يزيد عن 25 وزيرا، ويحذف بقية المسميات الوزارية الأخرى. فعدد كبير من الدول لا يتجاوز وزراؤها العشرون وتمضي الأمور فيها بسلاسة، وبلا تضارب في الاختصاصات كما يحصل عندنا، حيث لترضية زيد ولترطيب خاطر عمرو يتم ترفيع أقسام ومديريات إلى مستوى وزارات في توسيع للبيروقراطية وترهيل لأطرها بدلا من محاربة ما تضعه من عراقيل ومطبات أمام عجلة التقدم للأمام.
إنها مجرد أمثلة من شأن تبنيها وتبني غيرها من المقترحات الهادفة والمطروحة في أكثر من منبر إبراز جدية ومصداقية الحكومة الحالية في ترشيد النفقات العامة وإعادة بصيص أمل للأجيال المقبلة في إمكانية التطور والتغيير بهدوء ووفق قواعد ديمقراطية وحضارية بدلا من إشاعة اليأس والإحباط، وترك هذه الأجيال فريسة للمغامرات اليائسة بشتى أنواعها سواء في غياهب الجماعات الإرهابية أو بين أيدي مافيات الهجرة السرية.
ولكن الاحتقان الاجتماعي الحاصل لا يمكنه أن ينتظر ارتقاء الحكومة الحالية لهذا المستوى من النضج في مقاربة الشأن العام. وعليه لا ينبغي أن تتلاشى هذه الفورة المطلبية الشعبية الراهنة تحت تأثير سياسة "ما سوقيش" من دون تحقيق الحد الأدنى مما ترومه؛ الأمر الذي يدفع في اتجاه ضرورة العمل على تأطير هذه المطالبة في كيان سياسي جديد يطرح نفسه بديلا للكيانات الحالية التي علا الصدأ الكثير منها.
أليست هذه الحركات الاجتماعية المنبثقة من رحم السخط الشعبي على سياسات التقشف المتبعة لضبط الإنفاق الحكومي، وارتفاع الضرائب والأسعار لمواجهة عجز الميزانيات هي التي كانت خلف بروز حركة سيريزا في اليونان ووصولها إلى السلطة؟ ألم تفرض مثل هذه الحركات التي بدأت مع ظاهرة المنبوذين تنظيم بوديموس معادلة صعبة في الحياة السياسية الإسبانية؟
إن الوضع السياسي الراهن في المغرب ليس قدرا محتوما، والقوى السياسية التي تتسيد المشهد ليست مادة إجبارية، خاصة وأن معظمها إن لم نقل كلها غدت دكاكين سياسية لبيع التزكيات، واستقبال الرحل من النواب والمستشارين المغضوب عليهم هنا وهناك، غير قادرة على القيام بدورها الدستوري في تأطير المواطنين عدا تسويقها للمريدين وتلميع الانتهازيين.
فالمصلحة الوطنية العليا ومسؤولية المستقبل لا تتطلب كما يروج البعض على نطاق واسع مقاطعة الانتخابات المقبلة، وترك الساحة لنفس الوجوه الكالحة كي تعيد تسويق نفسها بمساحيق جديدة، وإنما تقتضي من كافة القوى الحية في المجتمع المدني التعبئة لفرض البديل الجاد المنسجم مع الطموحات الملكية والتطلعات الشعبية، خاصة في هذه الظروف الدقيقة التي تمر به البلاد جراء الأوضاع الاجتماعية الداخلية المثقلة بضبابية المستقبل، والمتزامنة مع تهديدات جدية محدقة بوحدتها الترابية، راغبة في التلاعب بأمنها واستقرارها.