شيء من التاريخ
لا ينكر أحد ما كان لطنجة في تاريخها المعاصر من سبق في ميادين ثقافية شتى، ففيها أنشئت المسارح الأولى ودور السينما والمطابع والصحف ومعاهد الموسيقى، وكانت بوابة المغرب للعديد من الفنون، كما كانت مستقرا لفنانين قدموا من كل أنحاء العالم، وجدوا في طنجة المكان الملهم والفضاء الرحب للخلق والإبداع، في ظل تعايش بين مختلف الأجناس والديانات والثقافات فريد من نوعه. ومن رحم طنجة تخرج أعلام الموسيقى المغربية وروادها كالعربي السيار وأحمد الزيتوني ومحمد العربي التمسماني وآخرون كثيرون، يعود الفضل في نبوغهم إلى أجواء طنجة الرحبة والمتفتحة، التي سمحت بتكوين أسس وتقاليد فنية وموسيقية ذات خصوصية استمرت بعد استقلال المغرب، كانت تتوهج تارة وتخبو تارة أخرى .
عن تاريخ المعاهد الموسيقية يقول الدكتور رشيد العفاقي باحث في التاريخ: "تأسس في بداية القرن العشرين معهد موسيقي بطنجة.. لا شك أنه كان يحتل بناية أو طابقا منها .. لكن المكان غير محدد بالضبط.. ثم حصل أن الفرنسيين الذي كانوا يؤطرونه غادروا طنجة إلى الجزائر ... وفي الأربعينيات أو بداية الخمسينيات تم إنشاء معهد جديد. وقد قيل لي أن البناية الثانية لمعهد الموسيقى كانت في العمارة التي يحتلها مركز سرفانطيس للعروض بشارع بلجيكا، هذا المعهد تنقل بين ثلاث بنايات إلى أن استقر في البناية التي بقرب الجامع محمد الخامس وكان في ملكية الإنجليز". ويضيف الدكتور العفاقي أن هذه البناية هي التي شهدت تألق المعهد الموسيقي إلى حدود تهديمه".
بين الأمس واليوم
في طنجة لا يخفى على أحد بأن الانتقال من بناية المعهد أمام مسجد محمد الخامس إلى بناية في شارع مهتما غاندي/ المكان الحالي للمعهد، كان بمثابة بداية العد العكسي لطمس معالم طنجة وذاكرة أجيال بكاملها. وقصة الانتقال تزامنت مع المد الإسمنتي والمضاربات العقارية التي أشعل نارها أباطرة المخدرات بتواطؤ مع من أوكل إليهم أمر تدبير الشأن المحلي. يقول أحد الطنجيين المتتبعين للشأن المحلي: " بخصوص مالك أرض المعهد القديم هو الشريف بين الويدان /تاجر مخدرات/ ولكن لا يهمنا هذا .. المذكور اشتراه بماله قانونيا .. ولكنه المشتري الثالث .. بمعنى أنّ الجماعة الحضرية فوتت الأرض العمومية لاثنين قبله ... وبما أن بين الويدان عزم على تدميره وبناء عمارة في وقت كان مبحوثا عنه ... وظهور احتجاجات المجتمع المدني ... استغلتها السلطة لضرب ثلاثة أطراف بحجر واحد ... وتلميع صورة السلطة الحريصة على الثقافة. فتم القبض على بين الويدان وحجز بعض ممتلكاته، منها أرض المعهد التي ردت إلى الملك العام ... والأخطر في الأمر هو طمس القضية /قضية شراء وبيع الأرض للمرة الأولى والثانية ... ملايير من الأموال سالت وقتذاك ... أما أهل المغنى فتم حشرهم في بناية شبيهة بمستودعات ملابس ملعب كرة من الدرجة الثالثة".
يقول ( ي.س ) إطار سابق في المعهد: المعهد القديم كانت تتوفر فيه كل مواصفات معهد حقيقي، لا من حيث نمط البناء ولا من حيث التجهيزات كالأرضية الخشبية التي من المفروض أن تغطي أرضية كل قاعة لتعلم الموسيقى، وقاعة تتحول إلى خشبة للعرض. أما بناية المعهد الحالية عبارة عن منزل يتكون من مرأب للسيارات ويستغل للتدريس أيضا، ومن طابقين علويين. هذه البناية لم تهيأ أصلا من أجل أن تقوم بهذه الوظيفة التي تقوم بها الآن.. فهو بناية مهترئة غالبا ما تتسرب من مجاريها مياه الصرف الصحي وتحول المكان إلى فضاء لا يليق بشيء. ناهيك عن التصدعات التي تعرفها البناية". ويضيف المتحدث قائلا: هذه الأوضاع إضافة إلى مشاكل إدارية وتربوية أخرى غالبا ما كانت وراء تأخر انطلاق الموسم الدراسي وانفجار الوضع أكثر من مرة. ومع ذلك لم تتدخل الجهات المعنية من أجل تصحيح ما اختل من الإيقاعات والموازين.
ضجيج وموسيقى
حينما تختلط أصوات الضجيج بأصوات الموسيقى ينعدم الانسجام فيرتبك الأداء. قاعدة موسيقية تنطبق على المعهد الوطني للموسيقى بطنجة، بما يعرفه من وضعية احتقان تجعله حلبة للصراع عوض أن يكون خشبة لتعلم الموسيقى والاستمتاع بها. عن وضعية المعهد الإدارية والتربوية حاليا تقول عايدة البوعناني، أستاذة التربية الموسيقية بوزارة التربية الوطنية وأستاذة بيانو والغناء الأوبرالي بالدار البيضاء وعضوة في الأوركسترا الفيلارمنوني المغربية بالرباط،: "علاقتي بمعهد طنجة بدأت في سن صغيرة حيث كنت أذهب مع والدي رحمه الله وأحضر حصصه لأصبح تلميذة بعد ذلك وأنا في التاسعة من عمري.عشت فترة إدارة المرحوم الرايسي وبعده الأستاذ إبراهيم ولحاج. وحتى بعد انتقالي إلى معهد الرباط لم تنقطع صلتي بالمعهد الطنجاوي. كنت أزور أساتذتي وزميلات الدراسة اللائي أصبحن أستاذات بالمعهد. وكان المدير آنذاك الأستاذ جمال بن علال. كل شيء كان على ما يرام حتى جاء المدير الحالي هشام الشرادي. وأول إنجازاته كانت طرد أساتذة من حجم حكيمة استيتو وهند بولخير وأخريات قبلهن، وتهميش الأساتذة الأكفاء والقدامى. وفي ظل هذا الوضع الرديء بدأت الشكايات تتقاطر من التلاميذ والآباء والأساتذة. وانقلب المعهد النظيف المرتب إلى حاوية قمامة، إهمال وعفونة.. وغرق في الواد الحار حتى بلغ الأذى السكان المجاورين. ورغم الشكايات لا حياة لمن تنادي. أما سوء التدبير الإداري وتصفية الحسابات تجلت حاليا في قضية طرد الأستاذة عواطف بوعمار، بدون سبب بعد عملها سنوات وسنوات. الكل يشهد لها بالكفاءة وحسن الخلق، لقد تعرضت لهذا المصير المؤلم فقط لأنها قالت لا لتدمير تاريخ المعهد بالظلم والانحياز وسوء التدبير."
وتضيف عايدة البوعناني متأسفة: "شخصيا لا أستطيع إسكات ضميري وأنا أرى البيت الذي كبرت فيه ينهار. فتضامني مع الأستاذة بوعمار ضد الظلم الذي طالها هو تضامن ضد الفساد ومن باب الغيرة ، لكن مع الأسف الشديد المسؤول عن هذا التردي جاء رده علي بكلام سوقي مبتذل جدا، ولم يتهاون في الخوض في عرضي ومحاولة تشويه سمعتي كسيدة لا كأستاذة. ولم يسلم حتى المرحوم أبي من شتائمه المقززة والمقرفة التي يندى لها جبين الحمار. وفي نفس السياق تتساءل عايدة البوعناني عن المعايير التي "تجعل هذا الشخص يستمر في إدارة معهد موسيقي له إرث رمزي كبير ويستمر في احتقار عمالقة من حجم الفنان أحمد الزيتوني وغيره، إن ما يحركه محض حسابات شخصية لا علاقة لها بالموسيقى أو تدريسها".
محاولة لضبط الإيقاع
المدير الحالي لم يتوان في الرد عبر العديد من المواقع الإلكترونية وفي العديد من الصحف على اتهامات خصمومه الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم، ملوحا في تبرير قراراته المتخذة بالمذكرة الوزارية التي تتضمن قرارات صارمة في حق الأساتذة العرضيين، الذين يصل عددهم في المغرب إلى 84 في المائة، فمنطوق المذكرة حسب ما أدلى به المدير للصحف، يقضي بأن تسند مهام التدريس حسب الأولوية إلى أساتذة ومعلمي التعليم الفني والرسميين التابعين لوزارة الثقافة، مع الالتزام بعدد ساعات عملهم الأسبوعية المحددة طبقا للمرسوم المنظم. بداية بالمكلفين بالدروس الحاصلين على شواهد الجائزة الشرفية، والإتقان والجائزة الأولى، ثم مستوى الثامنة أو المتوفرين على خبرة وحنكة في مواد الموسيقى التراثية. السيد المدير كان أيضا حريصا، من خلال خروجه الإعلامي، على شرح وضعية العاملين مع وزارة الثقافة، إذ يؤكد أن الأطر التربوية التابعة للمعاهد الموسيقية أطر تتقاضى أجورها حسب عدد الحصص الدراسية التي يشرفون عليها، دون أن يتمتعوا بالراتب الشهري إسوة بباقي موظفي القطاع العمومي، وبالتالي فالأزمة حسب المدير من إنتاج وزارة الثقافة نفسها. مدير المعهد أيضا يخلي مسؤوليته من الاختلالات الإدارية التي يتهمونه بها خصومه، بكونه لا يقوم إلا بتنفيذ قرار وزاري يدخل في صميم مهمته كمدير، فالوزارة هي التي قررت ترشيد النفقات في ما يخص الساعات الخاصة وإخضاعها لتراتبية الشواهد، وبالتالي يضيف مدير المعهد أن مقارنة الفائض في عدد الأساتذة الموجودين بالمعهد بعدد التلاميذ المسجلين في صنف الطرب الأندلسي يتضح أن العرض يفوق الطلب بكثير، مما استدعى الاستغناء عن الأستاذة عواطف بوعمار وفقا لتراتبية الشواهد التي دعت اليها الوزارة الوصية.. كلام ردده المدير في أكثر من مناسبة ولأكثر من وسيلة إعلام قيل عنها أنها موالية.
النقطة التي أفاضت الكأس:
عواطف بوعمار التي تردد اسمها كثيرا في الإعلام أخيرا، لا تريد أن تكون تلك الشجرة التي تخفي الغابة، تقول الأستاذة عواطف: "لم أكن لأرضى بالممارسات العقيمة التي ينتهجها المدير بسوء تسييره للمعهد، وذلك بشهادة الأساتذة والطلاب وأولياء أمورهم، لقد فعل المدير كل ما في وسعه ليؤثر سلبا على المناخ التربوي والفني داخل المؤسسة وعلى تحصيل التلاميذ في المعهد، الذي تدنى مستواه إلى مراتب سفلى وتراجع إشعاعه الفني، بينما كان يحتل المراتب الأولى على المستوى الوطني في السابق. وتضيف الأستاذة عواطف بأن من يقف في وجه الظلم والعبث والاستهتار بمهنة التدريس وقيم الفن يجد نفسه في نقطة مرمى إلى أن تحين الفرصة ليجد نفسه على عتبة المعهد بقرار تعسفي، مع العلم تضيف الأستاذة عواطف أن الأمر لا يعمم على أقارب المدير والمقربين إليه. أما قضيتي ليست سوى النقطة التي أفاضت الكأس. وفي هذا الصدد تكشف بوعمار عن لائحة طويلة من الذين سبق أن تعرضوا للفصل التعسفي من طرف المدير، وهم أربعة عشرا أستاذا وأستاذة، من مختلف الاختصاصات: آلة البيانو والكمان والعود، والصولفيج والآلات النحاسية والطرب الأندلسي، حسب اللائحة التي أدلت بها. تقول بوعمار: "إن المدير كان في نيته أيضا طرد جيل من الأساتذة الكبار وشيوخ الطرب كأحمد الزيتوني والأستاذ مصطفى التسولي والأستاذ محمد العربي أكريم، إلا أن مكانة هؤلاء في الوسط الثقافي والفني في طنجة جعلته يتراجع.
من أجل زمن موسيقي أفضل
أمام الأمر الواقع، وجدت بوعمار نفسها خارج المعهد، لكن مع كورال من الفنانين والفنانات ومديري المعهد سابقا وأساتذة بالمعهد بطنجة وباقي معاهد المغرب، وأعضاء من النقابة المغربية لمبدعي الأغنية وحتى من خارج المغرب وخصوصا من معهد بروكسيل للموسيقى، يرددون لحنا واحدا بتوزيع متناغم عبر توجيه رسالة إلى وزير الثقافة ووالي جهة طنجة تطوان الحسيمة، يحثونه على العمل من أجل بعث زمن موسيقي أجمل وأعذب لا نشاز فيه. في رسالة إلى هذين الأخيرين، حصلنا على نسخة منهما، تشير بوعمار والموقعين معها إلى أن المعهد منذ فترة تولي أمر تدبيره المدير الجديد وهو يعرف تدني في المردودية، جراء إبعاد الكفاءات المهنية وإقصاء البعض، الأمر الذي تسبب في زوبعة من المشاكل وأدى إلى اصطدام بين جميع الفاعلين. وفي رسالة أخرى إلى والي جهة تطوان الحسيمة اشتكت بوعمار سوء التدبير الذي طال أخلاقيات المهنة وكشفت أن المدير يعمل على الانتقام من كل من سولت له نفسه أن يعترض أو ينتقد.. وأوضحت بوعمار في رسالتها أن المدير لجأ إلى وضعها خارج المعهد بشكل تعسفي مدعيا الخصاص في الطلبة وفائضا في الأساتذة وأن للشهادات أسبقية على الأقدمية مع العلم أن أصحاب الشهادات تعلموا على أيدي هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في المعهد ووجدوا أنفسهم في آخر المطاف خارجه بقرار تعسفي.
رجع الصدى على الفيسبوك
على خلفية ما بات يسمى بقضية عواطف بوعمار، انتقلت قضية المعهد الموسيقي إلى العالم الافتراضي في شكل حملة استنكار في شكل شهادات صادمة لما يجري بالمعهد الطنجاوي، جوبهت بمتدخلين ذوي حسابات وهمية دافعت عن المدير مستعملة خطابا مخلا بالحياء والأخلاق، لكن بالمقابل كشفت جزءا خطيرا من سيناريو الحملة الممنهجة التي استهدفت عواطف بوعمار وقادها مدير المعهد بنفسه.
تقول فاطمة إيريفي أم إحدى التلميذات بالمعهد وطالبة سابقة: "لا أحد بمقدوره أن ينكر أن الموسيقى ترتقي بطباع الناس إلى الأفضل، وأنها تحقق الشعور بالسكينة والرفاهية وتلين السلوك. لكن في المعهد الموسيقي في طنجة الموسيقى تأخذ أبعادا أخرى. لقد انطلقت عملية نشر الغسيل بين المدير وبعض المدرسين. ماذا يجري؟ إذا ما ألقى المرء نظرة على صفحة المعهد الموسيقي بطنجة في الفيسبوك، فلا يمكن إلا أن يصاب بالصدمة. هناك تصعيد في إطلاق الشتائم التي تهيمن على منشورات هذه الصفحة. من الفاعل ؟ ومن المستهدف بهذه الشتائم؟ إنها تستهدف أستاذة وكل من يساندها. في الواقع، كنت دائما ضد هذا التعليم اللاتربوي الذي يسري داخل هذه المؤسسة. بصفتي إحدى طالبات هذا المعهد سابقا، فأنا لا أكن لبعض الأساتذة كبير تقدير، لكن أتفهمهم. ليس لدينا أي خيار. ولكن هذه المرة وفي بداية السنة الدراسية، طُلب مني التوقيع على عريضة. وافقت لأنني اعتقدت أن الأمر يتعلق بشخص تصرف بوقاحة مع طلابه.. ولكن بعد قراءة صفحتين، اكتشفت أن العريضة تتعلق بالأستاذة عواطف بوعمار. . قلت لهم إنني لا أعرف الشخص الذي يجب أن أندد به. هؤلاء الأشخاص الذين يقدمون أنفسهم فنانين قالوا لي: "على الرغم من ذلك، عليك أن توقعي، لأننا بدورنا قد وقعنا والآخرون أيضا وقعوا بلا مناقشة! " إذا كنت قد اتخذت هذا الموقف الناضج إلى حد ما، هل اتخذ الآخرون نفس الشيء؟ هل قرأوا هذه العريضة؟ هل علموا بمن يتعلق الأمر؟ . بالإضافة إلى ذلك، هناك شخص في صفحة المعهد على الفيسبوك يتدخل باسم "ناقد فيسبوكي" ويهاجم بطريقة مبتذلة ومنحطة فنانتين شهيرتين: زكية يخلف الفنانة الطنجاوية وعايدة البوعناني بنت المرحوم الفنان محمد البوعناني. ألا تجدون الأمر في غاية العار والهوان؟.