يريد تنظيم الدولة الإسلامية أن يصنع العالم على صورته. وعليه فإن سبل تفاعل المجتمع الدولي مع هجماته المروّعة هي التي ستحدّد إمكانية نجاحه في مخططه.
خلال أقل من شهر واحد، أزهق تنظيم الدولة الإسلامية أكثر من 400 روح بريئة في هجمات شنّها في باريس وتونس، وتفجير انتحاري مزدوج في بيروت، وإسقاط طائرة ركاب روسية في مصر. وقد رأى الكثيرون في تلك الهجمات صراعاً حضارياً بين قيم عالم غربي ليبرالي ومنفتح وأخر إسلامي منغلق ومتطرف. وتتزايد الدعوات في دول أوروبية شتى، إلى اتّخاذ إجراءات صارمة تقيّد الحريات الأساسية وتقلّص الخصوصية الشخصية، فيما أعلن ما يزيد عن نصف حكام الولايات الأميركية أن ولاياتهم لن تقبل باستضافة اللاجئين السوريين.
ويبدو من ردود الفعل هذه على أن صانعي القرار يرقصون سهواً على أنغام تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يصور العالم مقسوماً إلى قسمين؛ "معسكر الإسلام" و"معسكر التحالف الصليبي". وتشكّل هجمات التنظيم الدموية خطوة في إطار جهوده الرامية إلى إزالة المنطقة الرمادية بين هذين المعسكرين. وتشكل كل من بيروت وباريس مثالاً لهذه المنطقة الرمادية، حيث يتبلور، سهواً أو عن قصد، اللقاء بين الثقافات والأعراق والأديان في الموسيقى والكتابة والاكتشافات العلمية والمفاخر المعمارية.
لم يبدأ تنظيم الدولة الإسلامية بجهود تدمير هذه المنطقة الرمادية في باريس أو بيروت. لا بل انطلق من العراق، حيث شنّ هجوماً دموياً في يونيو 2014 على أكثر من مليونين ونصف المليون شخصأً من ديانات وأعراق تعايشت على مدى قرون، فطرد المسيحيين وذبح التركمان والشيعة واستعبد النساء والأطفال الإيزيديين.
ويستغل تنظيم الدولة الإسلامية سرديّة الصراع السنّي-الشيعي الأوسع التي يديمها التنافس الإقليمي بين المملكة العربية السعودية وإيران، لتبرير أفعاله. كما يستخدم الشعور المتنامي بالظلم في صفوف أهل السنّة في العراق وسورية. فان السواد الأعظم من قادة تنظيم الدولة الإسلامية وأنصاره هم إما ضباط بعثيون سابقون في الجيش، تم طردهم بسبب برنامج اجتثاث البعث في العام 2003 وحلّ الجيش العراقي، أو أفراد من القبائل السنيّة الذين عانوا الأمرّين في عهد نوري المالكي. أما في سورية، وعلى عكس تطلعات تنظيم الدولة الاسلامية، لم تؤدي حملة النظام على مدن ومناطق مختلفة، بما في ذلك إلقاء البراميل المتفجّرة وعمليات تبادل السكان القصري كجزء من المفواضات لانهاء بعض الصراعات المحلية كما حدث في الزبداني، إلى تظافر الدعم لها. لا بل أدت الى توسع مفرط في أزمة النزوح داخل سوريا واللجوء الى خارجها نتيجة الصراعات القائمة. وما الهدف من الربط المتعّمد لتفجيرات باريس باللاجئين السوريين، من خلال جواز السفر السوريّ الذي عثر في ساحة الجريمة، الا محاولة بائسة لمعاقبة اللاجئين لهروبهم من أرض الخلافة بدلاً من اللجوء اليها، وزرع بذور فتنة متجددة تحدّ من دعم الأوروبيين لهم.
كما يستفيد تنظيم الدولة الإسلامية من أزمة عامة في مفهوم ومبادئ المواطنة وشعور متنامي بالسخط لدى جل من المواطنين تجاه الحكومات العربية التي تقدّم هي أيضاً رؤية ثنائية للعالم باعتباره ينقسم بين وطنيين وإرهابيين. فحملة القمع الواسعة التي تشنّها الحكومات على كل فسحة ممكنة للتعبير السياسي أو لمعارضة نهج سياساتوي، مهما كان طابعه، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب والإخفاءات القسرية وتجريد المواطنين من جنسياتهم، كما يحدث بوضوح في مصر وبعض دول الخليج على سبيل المثال، تشكل عملية نسف ممنهجة لكل حيز وسطي بين الدعم للدول الوطنية ورعاية التنظيمات الراديكالية. والواقع أن الشعور بالغبن وغياب العدل الناتج عن هذه الممارسات، وليس الفقر، هو التي يدفع بالمجتمعات العربية وبمواطنيها نحو فكر راديكالي متطرّف شيبه بما يمثله تنظيم الدولة الإسلامية.
يستفيد تنظيم الدولة الإسلامية أيضاً من أزمة هوية ومواطنة مختلفة في أوروبا، وخاصة لدى مواطني الجيل الثاني والثالث من أصل عربي. فالكثيرون من هؤلاء يعانون من ألم التمييز وعدم المساواة الهيكلية في العمل والحياة اليومية، ويتم الإيقاع بهم من قبل الجهاديين عبر وساءل التواصل الاجتماعي وليس في المساجد. لا بل تظهر الدراسات اليوم أن الإلمام في الشؤون الدينية لم يعد شرطاً مسبقاً للانضمام الى هذه التنظيمات..
يتطلّب التوصّل إلى نهج جدّي لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، استراتيجيةً متعدّدة الجوانب تجمع بين العمليات العسكرية وبناء التوافق السياسي في ما بين اللاعبين الدوليين والإقليميين المعنيين في الحروب السورية ومنهم تركيا وروسيا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران. ولكي تنجح، على هذه الاستراتيجية أن تركّز على الأسباب الكامنة لنمو التنظيم وليس فقط على ردّ الفعل العسكري الذي يضع الأمن في صلب الأولويات ولكنه لا يقدّم حلاً على المدى الطويل، مهما كانت الانتصارات التكتيكية التي قد يتم تحقيقها.
إن مواجهة نظرة تنظيم الدولة الإسلامية إلى العالم تبدأ بالاعتراف صراحةً بأن ما نشهده اليوم ليس صراع حضارات وأديان، بل هو عرض صارخ للاختلالات الهائلة التي يعاني منها عالمنا.
في أوروبا، هذا يعني احتضان اللاجئين الفارّين من الأهوال نفسها التي أطلقها تنظيم الدولة الإسلامية في باريس الأسبوع الماضي، ومعالجة الشعور بالإقصاء والتغريب، وسائر العوامل التي تدفع آلاف المواطنين الأوروبيين نحو الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
أما في المنطقة العربية، فهو يعني البحث في الأسباب الجذرية لظهور تنظيم الدولة الإسلامية، من خلال معالجة الإقصاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي للعراقيين السنّة، ومعالجة الصراع السوري المعقّد من دون الإبقاء على الرئاسة؛ والعمل على إنهاء التنافس الإقليمي بين السعودية وإيران، والذي يؤجّج جزء كبير من هذه الفتن.
إن تقويض الانجذاب القاتل لدى شريحة أكبر من الشباب العرب إلى تنظيم الدولة الإسلامية، يبدأ أيضاً بإيجاد أنظمة حكم شاملة للجميع من شأنها أن تقدّم لهؤلاء الشباب مستقبلاً بديلاً طالب به ملايين الذين خرجوا إلى الشوارع خلال الانتفاضات العربية.
تبدو هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية وتفكيك جاذبيته مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة. والقضاء على التنظيم يعني تعبئة الإرادة السياسية والعمل بصورة استباقية لوضع حدٍّ للظروف التي تغذيه. وإلّا، فسنرقص جميعاً مرغمين على أنغام هذا التنظيم لعقود.