عبد الإله الجواهري: "الزين اللي فيك" بين البلادة السياسية و الانتهازية السينمائية

عبد الإله الجواهري: "الزين اللي فيك" بين البلادة السياسية و الانتهازية السينمائية

على هامش عرض شريط " الزين اللي فيك " بمهرجان قرطاج السينمائي، و توافد عشرات التونسيون لمشاهدته على الشاشة الكبرى بالقاعة الرسمية للمهرجان مفضلين بذلك الفرجة الحقة على الفرجة الممسوخة، الفرجة المقرصنة على أقراص مدمجة و منسوخة بشكل رديء أو من خلال وسائط سمعية بصرية مختلفة التي لا يمكن أن تقوم مقام الشاشة الفضية ، انطلق نقاش جديد قديم ، حول أحقية هذا الشريط بالعرض و الخروج للقاعات السينمائية المغربية ، نقاش عاود تحريك السكين في الجرح الدامي لحرية التعبير ببلدنا العزيز .
قد نختلف حول القيمة السينمائية لفيلم " الزين اللي فيك " ، سواء فنيا أو تقنيا ، لكن لا يمكن أن نختلف عن حقه في الوجود و الخروج ، بل و حقه في أن يعانق جمهوره المغربي الواسع و معه الجمهور السينمائي عبر العالم ، جمهور من حقه أن يشاهده و أن يعبر ، بكل حرية عن رأيه فيه ، سواء بالتصفيق أو بالنقد القاسي البعيد عن التجريح ، بمعنى نقد في حدود الاحترام ، نقد بناء و صريح .
البلادة السينمائية ، أو لنكن أكثر صراحة ، البلادة السياسة بالمغرب أرادت أن تصادر الحق في الكلام و الحق في التعبير ، بدعاوى متعددة ، لكنها في العمق هشة ، دعاوى مغلفة بمفاهيم ساذجة في مقاربة الفن و السينما ، دعاوى احترام الأخلاق و القيم و التراث المغربي " الخالي من الشوائب " ، دعاوى واهية لا تفهم معنى الرسائل السامية للخلق و الإبداع ، و لا تعترف بأهلية و حرية المتفرج المغربي في المشاهدة و الاختيار ، المتفرج المغربي حسب أصحاب دعاوى المنع ، كتلة بشرية تشبه الخرفان ، قطيع متحرك لا عقل و لا إحساس له ، مجرد إرادات خاضعة ، نفرض عليها بكل بساطة ، ما يجب مشاهدته و ما لا يجب ، ما يجب أ ن تتفاعل معه و تعبر عنه ، و ما يجب رفضه و شتمه و اعتباره عملا فاسدا دخيلا على مجتمعنا و قيمنا النقية البهية جدا جدا ..
الأدهى من ذلك أن عملية المنع خضعت لبلادة قانونية فجة ، بلادة منع عمل لم يتقدم منتجوه للحصول على تأشيرة عرضه ، أي أن حكومتنا الموقرة جدا ( معها مركزنا السينمائي المبجل ) قرأت النوايا المبيتة و عرفت مسبقا أن عيوش و شركته الشهيرة القوية المنتجة للفيلم ، لا بد أن يطلب يوما تأشيرة العرض ، ففضلوا رفع العناء عنه و إخباره مسبقا بأن عمله غير مرغوب فيه ، هكذا بكل بساطة ، عمل فيلمي لم يرتكب صاحبه جرما أو يخرق القواعد الأمنية للبلد أو ينال من عرض أحد بالمباشر أو غير المباشر ، اللهم تصوير و تعرية واقع مجتمعي اسود لمراكش الحمراء ، و من خلالها واقع جل المدن السياحية المغربية ، واقع يوجد في كل مدن العالم المتحضر أو المتخلف مثلما تعاني منه كل البلدان المعتمدة في اقتصادها على السياحة ، تصوير روائي اعتمد على وقائع متخيلة ، خيال قد يكون له علاقة فعلية بواقع الدعارة و بيع اللحم الرخيص المجرد من الإنسانية ، لكن في العمق هو مجرد فيلم ، و الفيلم ليس هو الواقع و إنما قراءة خاصة لهذا الواقع ، أي خلاصة فكرية و رؤية سينمائية متحررة من القيود الأخلاقية و المفاهيم المعتمدة على الوطنية الفجة ، عمادها الأساس ، الخلق و الإبداع و تصوير ما لا تراه العين العادية ، العين الكسولة المرتخية في عمليات الإستكناه و الحفر .
الحركة البليدة لمن وقع على ورقة أو جذاذة المنع ، جاءت كهدية لأنصار الفجاجة الإبداعية ، لانتهازيي الحركة السينمائية ، لمن عاشوا لسنوات طويلة على فراش الوصولية ونخر الذات السينمائية المغربية ، المساهمين في خلق اللوبيات المجردة من كل إحساس بالمسؤولية و الوطنية ، أنصار تخوين المعارضين و العمل على تشتيت صفوف السينمائيين و الطعن في نزاهة المناضلين الرافضين لقول نعم ، المصفقين لخطب " الزعيم " الغالي ، " الزعيم " الذي لا يترك فرصة دون النيل من صورة المغرب و المغاربة سينمائيا ، المكرس لفجاجة الإنتقام من المتنورين الرافضين للرأي الواحد الأحد ..
في مهرجان قرطاج السينمائي ، تمت برمجة الفيلم على الرغم من أن صاحبه / مخرجه لم يتقدم بطلب لذلك و لم يملأ استمارة المشاركة إلا أياما قليلة قبل انطلاق الدورة ( اتحدي كل من يقول العكس أو يثبت أن الفيلم خضع لعملية مشاهدة من طرف اللجنة المخصصة في اختيار الأفلام داخل إدارة المهرجان ) ، أي بعد تدخل " الزعيم " المنتقم ، و فرضه للفيلم على مدير الدورة ، المدير الضعيف جدا ، أمام إغراءات الدعم الذي يترجاه لمشروعه الفيلمي القادم من صندوق فرانكوفوني أجوف ، صندوق أصبح للزعيم ، منذ مدة ، سلطات واسعة عليه .
عرض " الزين اللي فيك " بتونس الخضراء ، لم يكن حبا في السينما و الفن وحريتهما الإبداعية اللامشروطة و إنما جاء حبا في إنجاز صفقة سينمائية واضحة بين الهنا و الهناك ، بين من ينتقم من المغرب " بذكاء " و يتملق في نفس الآن لآل عيوش بغباء ، و من يريد من جهة ثانية تحقيق مصالحه الآنية المفضوحة و لو على حساب ما يجري من أحداث على أرض تونس الخضراء ، تونس العزة و المصداقية و مواجهة خفافيش الظلام و غربان الإنتهازية .
تدفق المئات من التونسيين على قاعة عرض الفيلم ليس عنوانا لأهمية الفيلم أو انتصارا لصناعه و مؤيدي حريته في الوجود و الخروج ، إنما عنوان للدعاية المكثفة و الكتابات الفضائحية الصفراء التي جعلت منه فيلما " بورنوغرافيا " مقموعا ، و كل فيلم أو عمل مقموع يكون طبعا مرغوب فيه ( الدليل ،أن الفيلم حقق نسب مشاهدة عالية من طرف الجمهور المغربي بل مشاهدة بالملايين ، فقط لأنه فيلم ممنوع ، مشاهدات لم تتمتع بها الأفلام الجادة الجيدة ، سواء مغربية أو أجنبية ، بل إن واقع القاعات سواء في المغرب أو تونس أو الجزائر التي تغلق تباعا ، تفضح انتهازية وتطفل جزء عظيم من الجمهور ، الجمهور المقموع جنسيا و فنيا ) .
لهذا نرجو من الكتبة و صائدي اللحظات السينمائية المقتطعة من خواء الوقت و جاهلية القوم ، ألا يزايدوا علينا بعدد المتفرجين و لا بعدد المهرجانات الأجنبية التي عرضت هذا الفيلم و منحته جوائز ، مثلما نتمنى ألا يفرعوا رؤوسنا بكتابات بعض النقدة ( من النقود ) ، أو تهليل بعض المرتزقة المندسين في كل الثقوب و الجهات ، و لا بعض المنتفعين من عمليات المنع ثم العرض في أماكن خارج تصنيف الزمن المغربي كما هو الآمر الآن بقرطاج السينمائي .
شكرا لتونس الخضراء و جمهورها ، النقي القوي بإرادته و طموحاته الإنسانية ،الذي تضامن مع فيلم " الزين اللي فيك " على طريقته السامية الخالية من آثار الوصولية و غن كانت غارقة في اللجاجة المجتمعية ، و الخزي و العار للبلادة السياسية المغلفة بثياب الدين و الأخلاق الظلامية ، و بئس التصور و المصير للانتهازية السينمائية المتسربلة بشعارات الحداثة والديموقراطية ، و كل عام و راية أل عيوش و سمعة " الزين اللي فيك " عالية .