الدكتور رشيد بناني: محمد أديب السلاوي ناقد تشكيلي برؤية متجدرة في بيئتنا الثقافية

الدكتور رشيد بناني: محمد أديب السلاوي ناقد تشكيلي برؤية متجدرة في بيئتنا الثقافية

احتفت مدينة فاس، في الخامس عشر من فبراير 2010 بالكاتب والناقد محمد اديب السلاوي، حيث ظهرت موسعة عن كتاباته السياسية والاجتماعية والفنية والثقافية. شارك فيها العديد من الاساتذة والباحثين والفنانين، افتتحها الدكتور رشيد بناني / محافظ المركز الثقافي (الحرية) للعاصمة العلمية بالمداخلة التالية..

محمد أديب السلاوي كاتب وصحفي من طينة أصبحت اليوم نادرة، إذ يمكن أن نطلق عليه لقب الرجل الجوقl’homme orvhestre كما يقال في التعبير الفرنسي، لأنه الشخص الذي يتحرك بفعالية واقتدار في أي موقع وضع فيه للتعريف بما يعتمل في الساحة الصحافية والثقافية المغربية، وقد عاش فترة لا يستهان بها في المشرق العربي، ومد جسور التواصل مع فاعليه الثقافيين، وكانت له هناك حركة قوية وفعالة، ولكنها كانت دائما من أجل التعريف بالثقافة المغربية ونقل صوتها بجهوية ووضوح إلى قراء لغة الضاد أينما كانوا

في ستينيات القرن الماضي، دشن محمد أديب السلاوي نشاطه الأدبي في المغرب بإصدار كتاب عن الشعر، وفي سبعينات نفس القرن دشن نشاطه في المشرق العربي بنشر كتابين، أحدهما عن المسرح المغربي والثاني عن أسئلة التشكيل في المغرب، وكان الكتابان إيذانا بميلاد كاتب عربي قومي يربط المشرق بالمغرب، ويعرف كلا من المشارقة والمغاربة على السواء بالقضايا الفنية والاجتماعية التي تطرح نفسها على المبدع المغربي في ميادين ظلت غير معرف بها حتى ذلك الوقت.

ثم توالت كتابات محمد أديب السلاوي، سواء في مجالي المسرح والتشكيل أو في مجالات ثقافية أخرى، لاسيما حقل الشعر المحبب هو بدوره إلى قلب هذا الأديب ذي الآفاق الرحبة، ولكن منذ التسعينات، وبتزامن مع ما سمي بمرحلة الانتقال الديمقراطي ومسلسل أوراش الإصلاح والمصالحة مع الماضي، ظهرت كتابات محمد أديب السلاوي في الميدان الاجتماعي السياسي كانخراط منه في هذه الورشة المواطنة التي استقطبت أقلام العديد من ذوي الإرادات الصالحة والغيرة على مستقبل البلاد، وآخر مؤلفاته في هذا الباب كتاب يحمل عنوان (السلطة المخزنية، تراكمات الأسئلة)، صدر في بداية السنة الجارية 2010، عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر.

ومن المعلوم أن التحليل الاجتماعي لوضعنا الثقافي لم يكن يوما غريبا عن اهتمامات محمد أديب السلاوي، غير أننا وجدناه مؤخرا يخصه بإلقاء الضوء، ففي رسالة وجهها عن طريق الصحافة إلى وزير الثقافة الجديد، نبهنا محمد أديب السلاوي إلى أن الكتاب والفنانين المغاربة لا يعيشون من إنتاجهم، وأن العديد منهم بدون راتب وبدون تقاعد، وبدون تغطية صحية، مما يعني حسب تعبيره، أن قطاع الثقافة والفنون، يعيش في بلادنا بدون تخطيط أو استراتيجية تؤهله ليلعب دوره في التنمية البشرية وفي الانتقال الديمقراطي اللذين نتكلم عنهما كثيرا… ويضيف أن الكتاب واللوحة والقطعة الموسيقية والمسرحية أدوات معرفية يتيمة، تشبه إلى حد بعيد “الأطفال المتخلى عنهم” تتقاذفهم الأهواء… والمبدعون والكتاب والباحثون عندنا، يعملون كهواة، ومن تم لا يكون لعملهم أي صدى على أرض الواقع.

ولن يطال اهتمامنا في هذه المقالة الانشغال الاجتماعي السياسي في كتابات محمد أديب السلاوي، فهو موضوع يحتاج وحده إلى جلسة خاصة، لكننا سنركز اهتمامنا في هذه المداخلة على كتابه الثقافي الأخير (التشكيل المغربي، البحث عن الذات) الذي صدر في نهاية سنة 2009 عن دار النشر (مرسم) المتخصصة في إصدار كتب في مواضيع ثقافية نفيسة، وداخل طبعات أنيقة.

يتكون كتاب (التشكيل المغربي، البحث عن الذات) من مقدمة وسبعة فصول،يخصص المؤلف فاتحة كتابه، لطرح قضيته الأساسية، وهي إشكالية البحث عن الذات كما تظهر في أعمال التشكيليين المغاربة، وكأنما جعل المؤلف هذه المقدمة بمثابة جامع لاستنتاجات تركيبية استقاها من تأمله في هذا الموضوع، ثم وضعها في مستهل كتابه ليسهل ولوجه على القارئ.

ثم يخصص المؤلف فصله الأول لبسط أهم مصادر التشكيل الموجودة في ثقافة المغاربة وتراثهم، منذ عصور ما قبل التاريخ، ورسوم الإنسان الأول على جدران المغارات، مرورا بالعصور التاريخية المختلفة، وبتجليات التشكيل في المعمار والفسيفساء والنقوش والتواريق والمخطوطات والخزف والزرابي والشمسيات وغيرها… فكأنما جعل هذا الفصل الأول بمثابة مقدمة ثانية، تعرف بغنى الموروث البصري في حضارة المغرب، وبرموز الذات المغربية وصيغها المرئية التي صنعها الإنسان عبر تاريخ بلادنا، وهي نفسها الرموز والأشكال البصرية التي ألهمت العديد من التشكيليين المعاصرين وأسهمت في بلورة شخصيتهم المبدعة.

أما الفصول الأخيرة من الكتاب، فقد خصص كل واحد منها للتعرف بأحد الاتجاهات التي تصنف فيها أعمال التشكيليين المغاربة عادة، وهي على التوالي:

-         الاتجاه الفطري

-         الاتجاه التجريدي

-         الاتجاه التراثي

-         الاتجاه السوريالي

-         اتجاه الواقعية التعبيرية أو الواقعية الشعرية

-         الإبداع الحروفي أو الكاليغرافيا

وبذلك يكون الكتاب قد حاول الإحاطة بأهم التيارات التشكيلية المغربية، كما حاول ربط خيوطها المتفرقة بقضية واحدة مشتركة هي الغوص في الموروث الثقافي البصري (على الخصوص) للمغاربة، واستنطاقه والاستيحاء منه لإنتاج تعبير تشكيلي مغربي أصيل، نابع من الذات، ومتجه لمعانقة الوجدان الإبداعي الإنساني والمساهمة في إغنائه.

من خلال هذا يتبين أن محمد أديب السلاوي يمارس النقد التشكيلي برؤية متجدرة تنتمي إلى البيئة الثقافية المغربية والعربية والإسلامية، بمعنى أنه ينظر من هذه الزاوية الذاتية، فإنه لا ينظر إلى الرموز والعناصر التعبيرية الحاضرة في لوحات التشكيليين المغاربة نظرة إتنولوجية تتأمل هذا المنتوج من خارج ثقافته، وكأنها فاكهة غريبة أو منتوج فلكلوري يتسلى به لحظة، ولكنه ينظر إلى التشكيل المغربي من داخل ثقافته المغربية التي غذته، وباعتباره جزء لا يتجزأ من تطورها الطبيعي، بعد احتكاكها بالثقافة الغربية وبالحداثة الإنسانية.

حين يتناول المؤلف الاتجاه الفطري، مثلا فإنه لا ينظر إليه باعتباره مجرد اتجاه فطري طبع الحركة التشكيلية المغربية في بداياتها، ولا كشكل من أشكال التعبير العاجز عن التطور الجمالي، ولا باعتباره تطبيقا لتخطيط ثقافي (استعماري) متعمد يرمي إلى التأكيد على أن المغرب المتخلف ليس بإمكانه إلا إنتاج فن متخلف، وأنه لن يتأتي للفنان في بلد التخلف أن يشارك في الحركة التشكيلية العالمية، ولكنه يؤكد أن الاحتكاك المباشر بالحركة الثقافية العالمية دفع فنانينا المبدعين إلى الاستفادة من الطاقات الهائلة الكامنة في هذه الحركة وتطوير وسائلها ما جعل العالم كله يعترف بها كتعبير فني أصيل. لقد بين أديب السلاوي أن الفطريين الأوائل كانوا أول من فتح باب الاجتهاد في معركة البحث عن الذات، وأول من أبرز المنابع الثرية للتخيل والإبداع… ((ونحن نتفحص أعمال الفنانين الرواد… نلاحظ ذلك الازدواج العميق بين التأثير الغربي المتمثل على الخصوص في استعمال القماش والصباغة، والتأثير العربي الإفريقي الأمازيغي الذي يبرز في استناد هذه الأعمال على التراث المحلي ومتعلقاته من النقش والزخرفة والمعمار))… مع علاقة وطيدة مع المعيش اليومي في البوادي والمدن والأسواق والحارات… ومع توظيف الحكايات والذاكرة الطفولية لمبدعيها.

كما يقول عن بن علي الرباطي أن لوحاته لم تكن لوحات فطرية تماما، بل كانت تشخيصية رمزية… غارقة في تأملها للاقتحام الأجنبي للبلاد (ص:59).

ويضيف في مكان آخر أن الفترة التي ظهر فيها الاتجاه الفطري في المغرب ((كانت فترة متميزة بالاضطراب والتناقضات على المستوى العالمي والمحلي، فلا غرابة أو يولد فيها فنانون دمروا كل المقاييس المتوارثة، وأعلنوا عن فطرية تقوم على تحطيم الصياغات والتشكيلات والرؤى العادية والمتعارف عليها أكاديميا ومدرسيا)).

وكأنما يقرر السلاوي بهذا أن الحركة الفطرية في المغرب لم تكن فطرية بالضرورة، أي صادرة عن فنانين غير متعلمين وغير متمكنين من تقنيات الحرفة، ولكنه اتجاه تطور ليصبح مبنيا على تفكير مسبق، واختيار واع ومقصود للتخلي عن القوالب المدرسية، وللثورة على العقلانية، مثله في ذلك مثل بقية التيارات التشكيلية الكبرى التي طلقت العقلانية، وثارت على القواعد التقنية المرعية في القرن العشرين.

نفس هذا التفكير العميق في الخصوصيات الأصيلة وتشغيلها من أجل بناء إبداع متميز يحاور الآخر ولا يقلده أو يخضع له، ونفس التجاوز الإبداعي يميز حسب أديب السلاوي التجارب الغنية لكبار التجريديين المغاربة، مثل الشرقاوي والغرباوي والقاسمي وبلكاهية وشبعة وبلامين… إن الاتجاه التجريدي المغربي، من خلال النماذج التي تعرض لها بالدرس كما يقول، يطلق كل ما تحتويه التجربة التجريدية المحلية من طاقات خيالية وشعورية، ويجعلها تنسلخ من كل القواعد التي بنت عليها التجريدية الغربية ملامحها… ولكنه يسير، في ذات الوقت، وفلسفة التجريدية كمفهوم فكري يقوم على رفض الكائن، من أجل البحث عن الممكن (ص: 93). فهو يقول عن الشرقاوي مثلا أنه شكل (نقطة تحول كبرى في الصراع الفني بين تجريدية الشرق وتجريدية الغرب، فقد استعاد الإشارة السحرية المحلية وصاغها بشمولية كونية معاصرة) (ص: 63). والنماذج كثيرة، في كتاب محمد أديب السلاوي، على هذا الافتتان بأعمال التجريديين المغاربة الكبار وتأكيد نجاحهم في ضخ طاقات تعبيرية غير منتظرة في الحركة التشكيلية العالمية انطلاقا من الموروث الرمزي والإشاري والبصري المغربي.

نفس هذا الافتتان نجده تقريبا في تحليله لكل الاتجاهات التشكيلية المغربية الأخرى، وبسط بعض نماذجها المتفردة، مثل حديثه عن أعمال بنيسف والدريسي التي يصنفها في خانة الواقعية الشعرية، أو أعمال أحرضان وغربال السريالية.. ولا يمكن تتبع كل علامات هذا الولع الواعي والجميل بأعمال التشكيل المغربية، لذلك نحيل القارئ عليها في الكتاب.

شيء آخر أود أن أختم به هذه المداخلة وهو أسلوب محمد أديب السلاوي الدائم الجمال والشفافية، وهو هنا يحفل بشاعرية متدفقة تسبغ على الكتابة الوصفية والنقد الدقيق حيوية راقصة مشحونة بتموجات الكلمة وموسيقى الحرف وارتعاشات التصوير المجازي والاستعماري الذي يترجم عناصر اللوحة، أو الاتجاه التشكيلي، وائتلافاتهما، إلى كلمات بليغة ومعادل ملئ بالنغم.

فهنيئا لصديقنا بكتابه الجديد، وهنيئا للساحة الثقافية المغربية بمثل هذه الإصدارات الثرية والكريمة التي تظهر رغم المتطلبات وتتحدى آلام الولادة والزمن الثقافي العسير.