"مسلمون" من ذوي الأحاسيس الرهيفة، إنسانيون، طيبون، ومع ذلك لم تدفعهم كل هذه المشاعر والقيم الأصيلة إلى أضعف الإيمان والمتجسد هنا في الاحتجاج، إلى التضامن، إلى التنديد، بما يقع في فلسطين من جرائم تقتيل، لم تميز بين الرضيع والطفل الصغير والشيخ المسن، طالت النساء والرجال على حدّ سواء، لم يتألموا لمسلسل التهويد، ولم يقولوا لا للتطبيع.
"متضامنون" قرروا التضامن مع القاتل لا المقتول، مع الظالم لا المظلوم، مع السالب لا المسلوب.
"فاعلون" غابوا خلال كل الوقفات والمسيرات التي شارك فيها المغاربة من مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية تضامنا مع فلسطين على مرّ الأسابيع، الشهور والسنين، لم يتفاعلوا مع دعوة اللجنة المنظمة لمسيرة "انتفاضة الأقصى" يوم الأحد 25 اكتوبر 2015، لم يحفزهم "إسلامهم"، لم تشجعهم "إنسانيتهم" على الالتحاق والمساهمة في هذا الحدث التضامني ليقولوا معنا للكيان الصهيوني "أوقف جرائمك، اسحب عساكرك، فالأرض ليست أرضك، والوطن ليس وطنك، وتلك ليست مقدساتك ..."
"مسلمون"، ومعهم "يهود" هم أكثر يهودية من المنتسبين إلى "حملة مقاطعة البضائع الصهيونية" إحدى الجهات الداعية/المنظمة لمسيرة "انتفاضة الأقصى" بالدارالبيضاء، الذين يرفضون التطبيع بكل أشكاله ويدعون إلى تجريمه، نظرا لحجم ووقع المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني بعتاده العسكري في حقّ بنات وأبناء شعب أعزل إلا من إيمانه بعدالة قضيته.
"يهود" بدورهم لم يكونوا حاضرين معنا الأحد، ليعبروا عن احتجاجهم ورفضهم للعنف والقتل ومصادرة حق الفلسطينين في الحياة، وليشيدوا بأجواء السلام والتسامح والتعايش التي عاشوها ويعيشونها معنا في المغرب، ويجعلوا منها رسالة، تنتصر للسلام في مواجهة الغلو والتطرف مهما كانت مصادرهما وأشكالهما.
كل هذه الأشياء لم يستحضرها "مسلمو" و "يهود" تضامنٍ من نوع خاص، الذين وضعت بين أيديهم صورة اختيرت بعناية كبيرة، بُترت من مشهد من لوحة تعبيرية، من سياق تاريخي/جماعي للمغاربة، من إرث تضامني يباركه ويحافظ عليه شرفاء هذا الوطن، وحوّلوها إلى شكل بكائي جديد، بغاية تكميم الأفواه، وإخراس الألسن.
صورة للإساءة إلى الوطن، إلى الديمقراطية، إلى كل المغاربة الرافضين للصهاينة، المتعايشين مع اليهود، دونما أدنى مركّب نقص، كيف لا وهم عضو من أعضاء الجسد المغربي الواحد، ومنهم من دعا وساهم في مسيرة "انتفاضة الأقصى".
لن أقف عند مسارنا في مواجهة كل أشكال الغلو والتطرف، لن أستعرض بعضا من ملامح رفضنا للإرهاب الذي واجهناه وبشكل أكثر قوة منذ 2003 إلى اليوم، لن أذكر عناوين للتعايش كتبناها بمداد من الفخر في اشتغالنا على مرّ كل هذه السنوات، سأترك المقال لطبيعة المقام، والمقام اليوم هو فلسطين، الأكبر، والأشرف، والأجّل من كل مضامين الصور التي تحيل عليها الصورة المقتنصة، والتي كان وراءها بكل تأكيد قناص صهيوني، لايختلف عن القناصين المتربصين بأطفال وشباب المقاومة الفلسطينية، كان يمنّي نفسه وهو يعدّها بنفس دموي، هو ومن معه، بأن ترهبنا، تقمعنا وتثنينا عن مسار انخرطنا فيه ليس من أجل فلسطين وحدها بل من اجل كل القضايا العادلة، مسار راهنوا على فشله لكنهم عاينوا تطوره، وغنى تراكماته، سعوا إلى فرملته فوجدوه ناضجا رصينا حكيما في خطواته، مسار يقضّ مضجعهم ويؤلم حالهم.
أن يتبنى الصورة "نكراء"، أن يسقط في شراكها "وزراء"، أن يعمّمها لغايات معلومة وأخرى "مجهولة" "أشقياء"، فهي لن تسيء لصورة الحقيقة، صورة الجماهير الشعبية المتضامنة مع فلسطين التي يتآمر عليها المتآمرون، التي خرجت صفّا واحدا منظما متراصا، تردّد " فلسطين أمانة، والتطبيع خيانة"، " المغرب وفلسطين، شعب واحد لا شعبين"، موجّهة رسالة بنفس الحمولة والنفس الذي تشتغل به وتؤمن به مكونات اللجنة المنظمة للمسيرة وهي " الوحدة الوطنية هي طريق الحرية". وحدة في التصور والفعل لايريد البعض أن تتوفر لنا، فهم يريدون أن نظل حبيسي اجترار إرث تم تدبير تفاصيله في مراحل تاريخية عن سبق إصرار وترصد، يريدون أن نبقى سجناء فكر متحجّر يؤمن بالتفرقة، يريدون منا أن نقدّم صورا متعددة لا صورة واحدة، كما هو الشأن بالنسبة للصور التي فرّقت تضامننا مع فلسطين في بحر الأسبوع الفارط ما بين الأربعاء والأحد، وغيرها من الصور التي "تثلج" صدورهم و"تنفخ" أرصدتهم و"تشرعن" وجودهم!