هل مات الانتقال الديمقراطي في صمت و هدوء؟ أم أن هناك تحولات و تغيرات جديدة اصطدمت بظاهرتي البيروقراطية و السلطة و جعلته في خبر كان؟
هل ساهمت التطورات السريعة التي شهدها المغرب في السنين الأخيرة في إثقال كاهل مساره فحولته إلى مجرد شعار ينتظر من النخبة الحاكمة تعبيد طريقه؟ أم أن الانتقال الديمقراطي ظل ينتظر دعم القوى الديمقراطية من دون جدوى حتى نفذ صبره و اعترض سبيله؟
تلكم، هي الأسئلة التي سنحاول الجواب عنها في موضوعنا هذا، من منطلق الإسهام في النقاش و محاولة تشخيص الصيرورات الراهنة، و ليس من أجل التأمل الأبدي و لا من أجل تفٌكر التاريخ.
إذا كانت كل الدراسات المتخصصة في مجال "الانتقال الديمقراطي" كمبحث أساسي من مباحث علم السياسة، تشير إلى أن مفهوم "الانتقال" أو "التحول" يشير من بين ما يشير إليه إلى تفكيك القديم أو انهياره و بناء الجديد، أو مرور من حالة إلى أخرى، فإن ما يحمله هذا الانتقال في طياته من آمال و طموحات و تطلعات يصطدم اليوم بالغموض الذي يشوب مرحلة زمنية بكاملها، و يضع النخب الديمقراطية و جزء من الفاعلين السياسيين المتنورين المدعومين من طرف قوى حقوقية و مدنية وجها لوجه مع علاقات اجتماعية جديدة، و التقاء مجتمع معاصر مع مجتمع قديم، ومواجهة بين ثقافات مختلفة، و بروز تحديات جديدة أفرزتها توجهات سياسية محافظة، انقضت على مشروع الانتقال بمساومات و عمليات تفاوض بينها و بين السلطة التي تخشى المحاسبة و المساءلة.
لقد ساهمت نخبة متعددة من الأجناس السياسية و الحقوقية و الثقافية و النسائية و الشبابية المغربية في صناعة دستور 2011. و في الأخير، توافقت بشأن إصدار دستور جديد و تنظيم انتخابات عامة، تشكلت على أرضيتها حكومة في ظل شروط استثنائية و ليست عادية.
نعم، لقد زكت فئات واسعة من المجتمع المغربي نتائج هذا المسلسل الدستوري و ما تلاه، لكن الأحداث و الوقائع بينت بجلاء أن ثقل التاريخ هو الذي كان وراء الصورة الحقيقية التي رسمها المغاربة عن نفسهم و عن الوطن. إنها صورة كاملة و غير خادعة، صورة لا يمكننا أن نفصلها عن التحليل التاريخي الذي يشكل الخيط الناظم بين المغاربة و ذاكرتهم الجماعية.
لقد انطلق ورش حقوق الإنسان قبل 2011 بكثير، و شكلت هيئة الإنصاف و المصالحة سنة 2004 إحدى حلقاته الرئيسة باعتبارها لجنة وطنية للحقيقة و الإنصاف و المصالحة، أنشأت بناء على القرار الملكي بالموافقة على توصية صادرة من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان و ذات اختصاصات غير قضائية في مجال تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، و من مهامها البحث و التحري و التقييم و التحكيم و الاقتراح.
إن الربط بين مشروع الانتقال الديمقراطي و النهوض بحقوق الإنسان، شكل منذ أواخر الثمانينات مطلب العديد من القوى الحقوقية و السياسية التقدمية، من خلال مواقف و اقتراحات خصت المؤسسة التشريعية في إعمال مبدأ فصل السلطات و إصلاح القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان و مراقبة السلطة التنفيذية.
و منذ ذلك الحين لم يتوقف النضال الحقوقي في المغرب من أجل الإصلاح و التغيير، و لم يقتصر فقط على قضايا الاعتقال السياسي و قمع حرية التعبير و الرأي، بل تعداه إلى مستويات حقوقية أخرى مثل النضال من أجل المساواة ضمانا لسيادة حقوق الإنسان، واستقلال القضاء و العدالة الاجتماعية و الحقوق الثقافية و المناصفة و الحماية و الوقاية من التعذيب و مناهضة الإفلات من العقاب، و إعمال الملاحظة النوعية ومراقبة الضمانات القانونية و سلامة الانتخابات و نزاهتها.
إن كل هذه المحطات الحقوقية الوطنية لتحقيق العدالة تعكس في عمقها تحولات اجتماعية و ظروف موضوعية تجسدها تسويات سياسية ناقصة خاصة فيما يتعلق بتعطيل استكمال حلقات العدالة الانتقالية و الربط بينهما ( المحاسبة، الكشف عن الحقيقة، المصالحة، إصلاح المؤسسات و جبر الضرر)، و ما يحدث الآن من جدال حول توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان بإقرار المساواة بين المرأة و الرجل في الإرث، يعد مثالا ساطعا على فرملة الانتقال الى المجتمع الحداثي الديمقراطي و التخلص من نظم الاستبداد و هيمنة النظام القديم.
إن حراك فئات واسعة من المجتمع، و أزمة البطالة و التهميش و الاستبعاد الاجتماعي، تدفع الأوساط المحافظة لإحياء التقاليد الموروثة لتبرير البيروقراطية و السلطة و الهيمنة و التملك. لكن حياة المجتمع المغربي لا يمكن أن تكون ثابتة و جامدة، و أن المستقبل أغنى بكثير مما نتوقع.
لن ينكر أحدا ما فجرته سنوات الجمر و الرصاص من نتائج سياسية و اجتماعية و ثقافية أثرت في مسار مغرب اليوم.
فمن خلال متابعة ما يجري الآن في الساحة السياسية، يمكن القول أن هناك رجة ثورية ترسم معالم مستقبلنا، مهد لها و ساعد عليها ذالك المناخ الفكري الحر الذي تتنفسه كل الحركات الاجتماعية المغربية و تتنافس في إطاره العديد من التيارات و التوجهات السياسية و الحقوقية و الثقافية و المدنية.
إن سنوات الجمر و الرصاص نتج عنها حياة إنسانية جماعية و فردية، و مآسي تختلف في معانيها و سياقاتها، كما نتج عنها حالات من الإعاقة المستدامة و حالات من التخلي عن الشجاعة في الدفاع عن الأفكار و المواقف مقابل تأمين الحياة و احتياجاتها. و رغم ثقل التاريخ و تطلعات المستقبل، استمر الاستثمار الايجابي و المشترك في الحد الأدنى بين الفاعلين السياسيين و النشطاء الحقوقيين بحثا عن الحقيقة.
لكن، و رغم النزيف، الذي اعترض الحركة الديمقراطية عامة سواء على يد الدولة أو من خلال التدبير المفوض الذي لعبته الحركة الإسلامية، حرصت النخب المغربية الديمقراطية على متابعة النتاج السياسي و الفكري لهذا التاريخ الأليم بصورة تبرز اهتماما كبيرا بحفظ الذاكرة و محاولة تلقينها للذين لا يعلمون عنها إلا النزر اليسير.
و لعل ما تطرحه علينا هذه المرحلة من تحدي، يتبدى جليا بالنظر إلى الحضور اللافت للمحافظين و صعودهم المستمر في العديد من المؤسسات التي تتشكل منها الدولة و آلياتها و أجهزتها، مقابل تراجع المد التقدمي الديمقراطي المدعم من طرف الحركات الاجتماعية التي تدعو للتحديث و الدمقرطة.
و من دون وهم و لا مغامرة، هناك إيمان عميق بقيم إنسانية و كونية لا نريد أن نقيسها بالانقطاع أو الاستمرارية بين العالمين، المحافظ و الحداثي. و الجيل الجديد من الفاعلين الذي يزحف بكل ثقة نحو مواقع الريادة وفي الظهور المشرق على ساحة النضال، يكشف لنا قوة المخاطر و التحديات التي تريد جر المغرب إلى التقوقع و النكوص و التردي الاجتماعي و التضييق على حرية التعبير و الرأي (مثل ما يحصل الآن للمؤرخ المعطي منجب) و استمرار اعتقال الطلبة في السجن بتهم ملفقة (بسجن فاس) و محاكمة نشطاء حقوقيين و قمع حركات المعطلين و الطلبة الأطباء، ألخ.
إن كل اللوحات التي رسمها الشعب المغربي بتضحياته - و لا زال- كانت من أجل الانتماء للمغرب، على اعتبار أنه وطن واحد يجب أن يتسع للجميع. و لعل ذلك من الأسباب التي دفعت الدولة للإسراع بإعمال حقوق الإنسان على العديد من الواجهات و هيكلة العديد من المؤسسات الاستشارية في اتجاه تعزيز بناء دولة الحق و القانون و النهوض بحقوق الإنسان و حمايتها.
إن هذا المنعطف ما كان ليتم لولا أنه حلقة في سلسلة متصلة، و أن تاريخ المغاربة سلسلة من الأحداث المستمرة و المتولدة.و لذلك يمكن القول بأن "نمط الانتقال الديمقراطي" الذي وصلنا إليه في المغرب بتحدياته و إكراها ته يعود إلى هذه المرحلة بالذات، وأن الاستمرارية يؤكدها التطور التدريجي، و يخطئ من يعتقد أنه سيصنع حاضره بالقطيعة مع الماضي و بدفنه للتاريخ.
خاتمة
إن المواطنة، فكرة إنسانية و شرعة دولية لا تقوم على اعتبارات جنسية و لغوية و عرقية و اعتقاديه، ذلك أن جوهر الخطابات المعادية للحرية و المساواة و المناصفة، و نهج سياسة الهروب إلى الأمام للتملص من المسؤولية و تسييس الحقل الديني، لن يسهل علينا بناء الانتقال الديمقراطي في المغرب. إن الدعوة إلى الحوار بين الديمقراطيين المغاربة، دعوة مستعجلة لخلق مساحة جديدة من الأمل و مناهضة كل أشكال العداء لمغرب التقدم.