يقول الملك الحسن الثاني في خطاب 20 غشت، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لسنة 1996 "عادة ما نرى في الدساتيرالتي تصفحناها واطلعنا عليها، أن الغرفة الثانية تكون ناقصة القوة، وناقصة الآليات بالنسبة للغرفة الأولى، ولكن حتى نجعلها شيقة، وحتى نجعل الناس يقصدونها، قررنا أن نجعل من هذه الغرفة الثانية غرفة تتميز عن أخواتها في الدساتير الأخرى، لنظهر بذلك أن المغرب ليس مقلدا فقط، بل ينهل من مناهل الغير ولكن يصبها في كأسه ليبتلعها هو لجسده... لأنها ليست كما يقول البعض غرفة عقلاء أو حكماء أو شيوخ، بل هي غرفة أناس ينصتون فيقررون فيقبلون، أو ينتقدون أو يسقطون".
فهل نحن اليوم إزاء غرفة ثانية قوية ومتميزة، كما تمناها الملك الراحل، أم إننا إزاء غرفة ثانية ناقصة القوة، وناقصة الآليات؟
لقد أخذ المغرب، كما هو معلوم، بنظام المجلسين في دستور1962، رغبةفي تحييد المعارضة داخل مؤسسة البرلمان،وبالتالي العمل علىتكوين أغلبية الملك، تكون سندا للحكومة في الغرفة الأولى، وهو الدور الذي لعبته بإتقان جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية،داخل الغرفة الثانية. لكن طبيعة العلاقة الصراعية بين الأطراف السياسية أترث على عمل البرلمان، وجعلت حصيلته متواضعة. ورغم أن نظام المجلسين قد اختفى رسميا من الدساتير المغربية المتعاقبة، إلا أنه كفكرة وكإستراتيجية بقي حاضرا، من خلال التمثيلية المزدوجة داخل نفس الغرفة.
وجاء دستور1996، ليتم إعادة إحياء نظام المجلسين من جديد، لكن في سياق سياسي ودستوري خاص، سيطر عليه هاجس التناوب، الذي ثم النظر إليه آنذاك "كضرورة سياسية"، بسبب الإحساس المبالغ فيه ٱنذاك بحجم وقوة الخصم، وبالتالي الرغبة فيالتصدي له والاحتفاظ بالسلطة، بل واحتكارها. وإذا كان الجميع يتفق على أن الغرفة الثانية قد نجحت تاريخيا،وإلى حد كبير، في مهمتها، في تأمين التناوب السياسي والتحكم في مراقبته، فإن دورها في التشريع و في المراقبة ظل محدودا، باعتبارها نسخة طبق الأصل لمجلس النواب، لا تقوم بأي دور إضافي، وتساهم في بروزإنتاج تشريعي ورقابي، يفتقد في الكثير من الأحيان إلى التكامل والتمايز ويسقط في الروتين و التكرار.
أمادستور2011، فقدكرسبدورهنظام المجلسين،لـ"يتكون البرلمان من مجلسين، مجلس النواب ومجلس المستشارين. . . " (الفصل60). وإذاكانتوظيفة التشريع،لازالت مجالا مشتركا بين مجلسي البرلمان، حيت إن "البرلمان يمارس السلطة التشريعية،يصوت على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية"(الفصل 70) ، إلا أنه في حال اختلاف مجلسي البرلمان حول الصيغة النهائية لمشروع قانون أواقتراح قانون، فإن الدستور أجاز للحكومة إمكانية العرض على مجلس النواب، حيت " . . . يعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه. . . " (الفصل84). وهكذا، يظهر أن مجلس النواب يحظى بالتفوق والامتياز على مجلس المستشارين، رغم أن المشرع الدستوري أورد قيدا على مجلس النواب، والذي لا يمكنه أن يقر النص المعروض عليه ". إلا بالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين،إذا تعلق الأمر بنص يخص الجماعات الترابية، والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية" (الفصل84)، و بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم المجلس،إذا تعلق الأمر بالمصادقة على ملتمس الرقابة، إذ". . . لا تصح الموافقة على ملتمس الرقابة من قبل مجلس النواب، إلا بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم. . . " (الفصل105). كمايتم التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية من قبل مجلس النواب، ". . . وتتم المصادقة عليها نهائيا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين من المجلس المذكور. . . " (الفصل85).وبمفهوم المخالفة، فإن هذا الامتياز، وإن كان مقيدا،فهو يكرس لثنائية غير متوازنة،ولوأنإرادة المشرع الدستوري هيتحقيق التوازن أو حتىشبه التوازن وبالتاليتجاوز حالةرفض مجلس المستشارين لنص.لكن، وإذا كان هذا الشرط يخص رفض النص من طرف مجلس المستشارين، وبالتالي إمكانيةالمصادقة عليه في النهايةمن طرف مجلس النواب، فإنالإرادة في التوازن غائبة تماما،بالنسبة للحالة التيينتج فيها الرفض من مجلس النواب،عندما تحيل الحكومة أولا على مجلس المستشارين نصا يصادق عليه ثم يحوله إلى مجلس النواب الذي يرفضه، مما يسمح للحكومة بإحالته على مجلس النواب.
وإذا كانتالرقابة مجالا مشتركا بين مجلس النواب ومجلس المستشارين، إلا أن هناك بعض الاستثناءات التي يبدو فيها واضحاتفوق الغرفة الأولى، كالتصويت على البرنامج الحكوميمثلا،حيت "يتقدم رئيس الحكومة أمام مجلسي البرلمان مجتمعين، ويعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه. يكون البرنامج المشار إليه أعلاه، موضوع مناقشة أمام كلا المجلسين، يعقبها تصويت في مجلس النواب" (الفصل88). أمامجلس المستشارين، فغير معني بالتصويت على البرنامج الحكومي، ومناقشةهذا البرنامج تبقىمجرد إجراء بروتوكولي غير ذي أثر سياسي، هدفهفقط استطلاع رأي المستشارين لمعرفة موقفهم من سياسة الحكومة، تحسبا لأي موقف "عقابي"، قد يقدم عليه المجلس مستقبلا، كتقديم ملتمس لمسائلة الحكومة. كما أنتفوق الغرفة الأولى يظهر كذلك من خلالالتصويتعلى"ملتمس الرقابة " (الفصل105) ، في حينيبقى للغرفة الثانية حق مسائلة الحكومة ،ولكنمن دون إسقاطها، ذلك أنه " لمجلس المستشارين أن يُسائل الحكومة. . . يبعث رئيس مجلس المستشارين، على الفور، بنص ملتمس المساءلة إلى رئيس الحكومة; ولهذا الأخير أجل ستة أيام ليعرض أمام هذا المجلس جواب الحكومة، يتلوه نقاش لا يعقبه تصويت" (الفصل106). فالملاحظ إذنأن مجلس المستشارين لا يختص ولو جزئيا في تنصيب الحكومة، التي يعود أمر تنصيبها إلى الملك وموافقة مجلس النواب، كما لا يملك حق إسقاطها. أما غير ذلك،فإن الدستورقد أعطى لمجلس المستشارين حق المراقبة، عن طريق إنشاء لجان لتقصي الحقائق؛ إذ"... علاوة على اللجان الدائمة المشار إليها في الفقرة السابقة، يجوز أن تشكل بمبادرة من الملك، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو ثلث أعضاء مجلس المستشارين، لجان نيابية لتقصي الحقائق..." (الفصل67)، كما أنمجلس المستشارين، على غرار مجلس النواب، يمكن له توجيه أسئلة إلى الحكومة (سواء كانت كتابية أو شفوية)،حيت "تخصص بالأسبقية جلسة في كل أسبوع لأسئلة أعضاء مجلسي البرلمان وأجوبة الحكومة. . ." (الفصل100).
إن التعديلات الدستورية في بلادنا دائما ما لا تخرج عن سياق تكريس نفس بنية السلطة، أو على الأقل عدم المس بجوهرها. ومهما اعتبرنا مجلس المستشارين منافسا لمجلس النواب،إلا أنالممارسة قد لا تساعد مجلس المستشارين، وهو" ناقص القوة، وناقصالآليات" ، وبالتالي ناقص الفعالية والمردودية، على أداء مهمته التشريعية والرقابية كما يجب، في حين يبقى مجلس النواب دائما الأعلى، لأنه منتخب مباشرة من الشعب، ويتحمل أساسا مسؤولية التصويت على البرنامج الحكومي، كما يملك قرار إسقاط الحكومة.
وعلى هذا الأساس، يشكل مجلس المستشارين، باختصاصاته المحدودة ، إحدى حلقاتمسلسل إضعاف البرلمان، إضعافيرتبط من جهة، بكيان البرلمان ذاته، من خلال غياب المؤسسة البرلمانية عن الحياة السياسية في فترات متعددة، ويرتبط من جهة أخرى، بتركيبة البرلمان، حيث إن العديد من البرلمانيين، وبسبب تغيبهم المستمر وضعف تكوينهم وعدم توفرهم على المعلومات الضرورية للتقصي والبحث ومراقبة الحكومة، فنسبة كبيرة منهم لا تمتلك الوسائلالضرورية والملائمة للمساهمة بفعالية في الإنتاج التشريعي وخاصة في شقه المالي؛ فمناقشة قانون المالية مثلا أصبح اليوم أمرا معقدا جدا، يتعذر على عدد من البرلمانيين الإحاطة به وفهمه وتقديم التعديلات الأساسية بشأنه. وبالإضافة إلى هذه البنية الفكرية المعيبة للبرلمان، فوجود أغلبية مساندة تلقائيا للحكومة، تفوق عدديا أصوات المعارضة، يضمن لمشاريع القوانين شبه حصانة، لا تؤثر فيها التعديلات، مهما بلغت أهميتها، إلا إذا حظيت بقبول الحكومة.